الطاقة البديلة
لم يعد العمل من أجل مصادر بديلة للطاقة هدفا لحماة البيئة فقط بل يمكن وصفه بساحة إضافية لمزيج من الصراع والتنافس الدولييْن على الأصعدة السياسية والاقتصادية أيضا. وإذا كانت جهات عديدة تعلل مسلسل الحروب
والتدخلات العسكرية الأمريكية عالميا ما بين البلقان وأفغانستان والعراق بأنها تستهدف استكمال السيطرة على القسط الأعظم من منابع النفط الخام والغاز الطبيعي وطرق إمداداتهما العالمية، فإن كثيرا من الجهود
المبذولة لتطوير مصادر للطاقة البديلة يمكن رؤية أهداف سياسية واقتصادية من ورائها أيضا إضافة للأهداف البيئية الواضحة لذلك، على الأقل عندما تتبنى تلك الجهود جهات حكومية رسمية وشركات اقتصادية كبرى.
ولكن دعم الاعتماد على مصادر الطاقة البديلة لا يتحقق بشكل فعال دون توفير الأموال الاستثمارية على نطاق واسع، بينما يُنفَق في الوقت الحاضر ما يتراوح بين 300 و420 مليار يورو سنويا في الاستثمارات المالية
في قطاعات الطاقة التقليدية، من الفحم والنفط الخام والغاز الطبيعي، كما يُدعم بعض هذه القطاعات -لاسيما الفحم- بزهاء 200 إلى 250 مليار يورو سنويا ليحافظ العمل فيها على مردود اقتصادي يسمح ببقائها، ولا
تجد مصادر الطاقة البديلة من الاستثمارات أو الدعم ما يسمح بأي مقارنة.
وما يزال الطريق إلى إيجاد مصادر بديلة للطاقة بنسبة عالية لتغطية الاحتياجات العالمية طريقا طويلا، فحتى الدول التي تركز جهودها على هذا الصعيد تتحدث عن نسب أقصاها ما يصل إلى عشرة أو عشرين في المائة من
احتياجاتها المحلية بالقياس إلى الاستهلاك الحالي للطاقة فيها، وهذا خلال عدة عقود مقبلة، مما يعني في الحصيلة أن الاعتماد على النفط الخام والغاز الطبيعي في اقتصاد الطاقة ستبقى له مكانة الصدارة لزمن
طويل.
قصة استبدال الطاقة
وكانت بداية الحديث على مستوى عالمي لزيادة استغلال مصادر الطاقة البديلة في مؤتمر ريو دي جانيرو أو ما عُرف بقمة الأرض إبان انتهاء الحرب الباردة، ولم يتعد آنذاك إعلان النوايا الحسنة غير الملزمة، وذكر
الطاقة البديلة كوسيلة لتخفيف أعباء تلوث البيئة.
وأظهرت المؤتمرات الدولية الكبرى لاحقا -لا سيما مؤتمرات المناخ العالمي- استحالة التوصل إلى "إجماع دولي" على خطوات محددة وملزمة في ميدان الطاقة البديلة، وكانت خيبة الأمل الكبرى على هذا الصعيد أثناء قمة
"التنمية المستدامة" في جوهانسبرج في جنوب أفريقيا عام 2002م، عندما صدرت الاعتراضات في الدرجة الأولى عن الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا واليابان ومجموعة الدول النفطية.
وكان الطلب المطروح آنذاك هو تبني هدف رفع إنتاج مصادر الطاقة البديلة إلى حدود 15 في المائة من الإنتاج العالمي حتى سنة 2015م. في المؤتمر نفسه تكونت مجموعة ما يُسمى "ائتلاف الدول الراغبة" تعبيرا عن
التقائها على الهدف المذكور، فصدرت دعوة ألمانيا إلى عقد مؤتمر دولي يضمها ويضم المنظمات غير الحكومية والشركات المعنية للعمل على إعطاء قطاع المصادر البديلة للطاقة دفعة قوية على الصعيدين السياسي
والاقتصادي. هذا المؤتمر انعقد في بون في الفترة بين 1 و4 حزيران/ يونيو 2004م، بمشاركة زهاء 1500 شخص، يمثلون أكثر من 80 دولة وعددا كبيرا من المنظمات غير الحكومية ومن الشركات العالمية، لاسيما
الألمانية.
بين السياسة والاقتصاد
عند التأمل في قائمة الدول المشاركة في هذه المبادرة الدولية الكبرى والأولى من نوعها يلاحظ أنها تشمل الدول الأوربية جميعا، وعددا لا بأس به من الدول النامية والمتطورة نسبيا فيما عدا الدول النفطية، وهو
ما يشير إلى قيام "تحالف دولي" مصلحي مقابل التحالف الدولي غير المباشر بين الدول النفطية والولايات المتحدة الأمريكية على وجه التخصيص، بينما بقيت دول رئيسية كالاتحاد الروسي والصين الشعبي خارج الإطار حتى
الآن.كما ذكر موقع إسلام أونلاين.
كما يظهر في مؤتمر بون حرص القائمين عليه من ألمانيا على رفع مستوى مشاركة المنظمات غير الحكومية فيه بشكل ملحوظ. فبدلا من أن تعقد هذه المنظمات مؤتمرا موازيا منفصلا عن المؤتمر الرسمي، كما أصبح معتادا في
كثير من المؤتمرات الدولية الكبرى، لتعلن عن مطالب ومواقف تتناقض غالبا مع المواقف الرسمية للحكومات، يشهد مؤتمر بون عملية دمج شاملة لتلك المنظمات -والشركات أيضا- في الإعداد للمؤتمر أولا، ثم في المناقشات
الجماعية للقضايا المطروحة فيه ثانيا، ثم في التأثير على صياغة نتائجه ثالثا. لكن هذه المشاركة تقتصر على اليومين الأولين، بينما تُتخذ القرارات وتُعلن الحصيلة من جانب الوزراء المختصين في اليوم الأخير،
بعد مناقشات وزارية في اليوم الثالث.
ألمانيا.. محركة القطار
وقد قطعت ألمانيا -الدولة المضيفة- شوطا كبيرا في هذه الأثناء على صعيد استغلال مصادر الطاقة البديلة، مما ساهم فيه إسهاما رئيسيا وصول حزب الخضر إلى السلطة في ائتلاف حكومي مع الديمقراطيين الاشتراكيين عام
1998م، وشمل ذلك مخطط الاستغناء عن الطاقة النووية وفق برنامج طويل الأمد (أكثر من 30 سنة)، واتخذت الحكومة الألمانية سلسلة من الإجراءات السياسية بما فيها الدعم المالي المكثف لتطوير استغلال الطاقة
الشمسية وطاقة الرياح على وجه التخصيص.
وقد بلغ انتشار خلايا الطاقة الشمسية في هذه الأثناء ما يغطي مساحة تزيد على 4 ملايين متر مربع، ويراد الوصول بطاقتها الإنتاجية إلى أكثر من 30 ألف ميجاوات. بينما بلغ عدد "طواحين طاقة الرياح" بضعة عشر
ألفا، وبلغ حجم طاقتها 12 ألف ميجاوات. ويراد توسيع نطاقها إلى المناطق البحرية، لا سيما بعد ازدياد موجة الاحتجاجات الشعبية من التأثير السلبي لمنظر تلك "الطواحين" في المناطق الطبيعية التي تنتشر فيها.
وتتطلع وزارة البيئة إلى زيادة استغلال الطاقة الحيوية والمائية أيضا، إلا أن جميع ذلك لم يبلغ حتى الآن سوى 3% من استهلاك الطاقة، أو 6% من إنتاج التيار الكهربائي.
وترى الأهداف الرسمية الموضوعة على هذا الصعيد رفع نسبة إنتاج مصادر الطاقة البديلة إلى ما يناهز 20% بين عامي 2025 و2030م، وتوصف هذه الأهداف بأنها عسيرة التحقيق، وقد توصف بالأحلام عند ذكر نسبة 50% مع
حلول عام 2050م. إلا أن هذه النسب تعلن بالقياس إلى حجم الاستهلاك الحالي للطاقة في ألمانيا، وهو ما يدفع إلى التساؤل عما ستكون عليه فعلا مع ارتفاع نسبة الاستهلاك.
على أن الحماس الألماني الملحوظ على هذا الصعيد يستدعي السؤال عن دوافعه بغض النظر عما يُذكر فيما يشبه "الدعاية السياسية" أن الغرض الرئيسي هو توفير الطاقة بصورة أفضل في البلدان النامية والفقيرة التي
يمكن أن يحقق استغلال الطاقة الشمسية والرياح فيها مردودا اقتصاديا أكبر بكثير مما يحققه في الدول الصناعية عموما. على أن هذا الأسلوب في عرض الأهداف الرسمية يرتبط أيضا بالخلفية المالية والاقتصادية
للدوافع الألمانية؛ فبعد أن احتلت ألمانيا مكان الصدارة في قطاع الطاقات البديلة بين الدول الصناعية تريد أن تكون لها الأولوية في تصدير المنشآت والخبرات التقنية إلى الدول النامية.
ومن المؤكد أن الجهود الألمانية والأوربية لن تقف عند الحدود الصينية والروسية، لا سيما بعد أن تردد مؤخرا أن التفاهم الأوربي الروسي بشأن انضمام الاتحاد الروسي إلى منظمة التجارة الدولية ينطوي بالمقابل
على وعد روسي غير معلن بالموافقة على ميثاق المناخ العالمي، وهي ضرورية ليسري مفعوله، بعد أن قاطعته الولايات المتحدة الأمريكية وهي المصدر الأكبر عالميا لتلويث البيئة بثاني أكسيد الفحم. وإذا التزمت موسكو
بموجب هذا الميثاق بتخفيض نسبة انبعاث هذا الغاز فيها فلا يُستبعد أن تُفتح الأبواب الروسية أمام تقنيات مصادر الطاقة البديلة، رغم موقع النفط الخام وتصديره في الاقتصاد الروسي.
ويمكن على ضوء المعطيات السياسية والاقتصادية تفسير الاهتمام الكبير من جانب ألمانيا بالمؤتمر الدولي المنعقد في بون، وبالعمل من أجل أن يحقق نجاحا حاسما، ومن المفروض أن يصدر عنه بيان سياسي، وبرنامج عمل،
وتوصيات عامة، على أن يتضمن البيان السياسي ذكر ما يتم الاتفاق عليه بين المشاركين فيه من التزامات وأهداف محددة لزيادة استغلال الطاقة البديلة إلى جانب العمل على توفير فرص متكافئة أفضل للوصول إلى الطاقة
عموما، في البلدان النامية أيضا.
بينما يتضمن المشروع المقترح لبرنامج العمل سلسلة من الإجراءات العملية التي قدمها طواعية عدد من الدول والشركات المشاركة فيه، ويوجه المؤتمر في مجموعة توصياته الختامية الخطاب إلى سائر الحكومات والمنظمات
المعنية والقطاع الاقتصادي على المستوى العالمي، إلى المشاركة في تبني ما يصدر عنه بشأن اعتماد الطاقة البديلة. ومن الأرجح الاتفاق أثناء المؤتمر على عقد سلسلة من المؤتمرات اللاحقة لمتابعة نتائجه وتطويرها
مستقبلا، مع الأمل في انضمام مزيد من الحكومات والمنظمات والشركات إلى هذه المبادرة الدولية.