إن دراسة مفهوم العمل المهني في الإسلام وإحياء المبادئ والقيم المثلى التي جاء بها تنبثق أهميتها من كون العمل أداة التطور
والبناء والتقدم الحضاري، ولقد أصبح العمل المهني والفني والتقني ضرورة اجتماعية وحضارية خلال العصر الحديث لما يحتله من مكانة متميزة وخصوصاً لدى الدول التي قطعت شوطاً كبيراً تجاه تنفيذ البرامج والخطط
التنموية الشاملة، وتزداد أهميته بفعل عوامل التطور التقني والتغير الاجتماعي والثقافي السريع، الأمر الذي ترتب عليه إعادة النظر باستمرار في محتوياته وأساليبه وتطبيقاته. ويقف المسلمون اليوم على بوادر وعي
جديد في أنحاء العالم الإسلامي لتفجير الطاقات الهائلة التي تملكها دوله والاستفادة من ثرواتها الطائلة لبناء الحياة الإسلامية على مبادئ الإسلام وهدي شريعته. وتأتي هذه الصفحات دعماً لبوادر ذلك الوعي
وإيماناً بالدور الذي تقوم به هذه البحوث والدراسات العلمية في بناء الدولة العصرية التي تقوم على أساس استخدام العلم والمنهج العلمي وأثرهما البارز على زيادة الإنتاج وتحقيق السعادة والرفاهية والعزة
والسيادة للمجتمع بعامة. ومن هنا تبرز أهمية طرح المفهوم الإسلامي للعمل المهني حتى تبين وتتضح أهدافه وغاياته وأحكامه وشموليته، وأن الإسلام ينظر إلى العمل والحرف والمهن نظرة كلها تكريم وإجلال تكمن في أن
جعلها ضرورة من ضرورات الحياة، كما رتب عليها الأجر وجعلها أفضل الكسب وجوهر العبادة، وجعل تعلم أدائها وإتقانها والإخلاص فيها غاية يجب أن يسعى إليها المسلم. وتتضمن الدراسة محورين وخاتمة هي: المحور
الأول: في مفاهيم العمل والمهن وأهمية العمل المهني في الإسلام. المحور الثاني: عرض لأهم مبادئ العمل المهني وأحكامه في الإسلام ودورها في تطور المجتمع. الخاتمة: وفيها عرض لأبرز نتائج البحث. المحور الأول
مفاهيم العمل والمهن وأهمية العمل المهني في الإسلام أ- مفهوم العمل: العمل في اللغة هو : كل فعل من الإنسان أو الحيوان بقصد، وهو أخص من «الفعل» لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها الفعل من غير
قصد، فليس كل فعل عملاً ولكن كل عمل فعل. ويطلق العمل في اللغة على الصفة، والمهنة، والحرفة. إذن فقد استعملت كلمة العمل في اللغة استعمالين: بمعنى المهنة، وبمعنى الفعل، إلا أن المهنة في الأغلب مصدر
للرزق، والفعل في الغالب ليس بمصدر له، وعندما استعملت كلمة العمل في الإسلام كمصدر للرزق أصبح العمل يشمل أصحاب المهن اليدوية كالنجارة والحدادة وغيرهما، كما يشمل أصحاب المهن المتوسطة كعمال الزكاة والمهن
الكبيرة كالولاة.. ب- مفهوم المهنة: المهنة في لغة العرب تعني الخدمة والابتذال. وقال الجوهري في الصحاح: المهنة: الخدمة وأشار إلى معنى الابتذال الموجود في كلمة المهنة بقوله: وامتهنت الشيء: ابتذلته ورجل
مهين، أي حقير. قال الأسود بن يزيد النخعي لعائشة أم المؤمنين: ما كان رسول الله ص يصنع في بيته؟ قالت: «كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج فصلى». وقولها كان يكون في مهنة أهله أي: خدمتهم لأن
المرء في منزله لا تظهر عليه الرسميات والوقار الذي يحرص عليه عندما يكون خارج بيته في العبادة، ويوضح ذلك حديث آخر أنها رضي الله عنها سئلت: ما كان رسول الله ص يعمل في بيته؟ قالت: «كان بشراً من البشر،
يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه». ولقد كان العرب قديماً يكرهون العمل باليد وينظرون إليه بتدن، ويعتبرونه مهيناً لصاحبه بإفقاده إياه وقاره، ويفضلون عليه التجارة واللهو لأن ليس فيهما ذلك المعنى، فقد
سموا العمل بالمهنة تعبيراً عن كراهيتهم له، وأوكلوا أمر المهن إلى الموالي وغير العرب. ثم جاء الإسلام ليغير نظرة الجاهلين الخاطئة للعمل الشريف فشجع كثيراً على العمل ووعد بالأجر العظيم عليه، بل جعله
مكافئاً لأعلى المراتب وهو الجهاد في سبيل الله، ولكن هذا المعنى الجاهلي زال- بفضل الدعوة الإسلامية وانتشارها ووعي رجالها بأهمية العمل اليدوي وضرورته للتقدم والرقي- لم يعد له وجود في دائرة العمل المهني
فصار الناس لا يفهمون من معنى المهنة اليوم غير مزاولة المرء عملاً يكتسب منه، وقد اتضح هذا التطور الذي طرأ على معنى كلمة «مهنة» فقد جاء في المعجم الوسيط: «مهن الرجل مهناً ومهنة: عمل في صنعته، وامتهن:
اتخذ مهنة، والمهنة: العمل يحتاج إلى خبرة ومهارة وحذق بممارسته». ثم ما لبثت هذه النظرة الجاهلية أن عادت إلى مجتمعاتنا الإسلامية والعربية وذلك نتيجة التخلف الذي أصاب الأمة الإسلامية والتأخر عن ركب
الحضارة. فقد أكد ذلك عدد من الباحثين في هذا الاتجاه هذه النظرة الجاهلية، واعتبروها من أهم المعوقات المؤدية إلى قلة إقبال الطلبة على الالتحاق بالتعليم المهني، وقد وردت أمثلة العبادات في كثير من
الدراسات كأسباب لقلة الإقبال. مثل: 1- قلة وعي المجتمع بأهمية التعليم المهني والفني ودوره في التنمية. 2- العادات والتقاليد التي تنظر بتدن إلى بعض المهن والأعمال اليدوية. 3- نظرة المجتمع السلبية للعمل
اليدوي. ولكن المجتمعات الإسلامية اليوم على بوادر وعي جديد في إدراك أهمية العمل المهني وقيمته وبدأت تتبنى نظرة تكريمية للعمل اليدوي باعتباره القاعدة الأساسية التي يقوم عليها التطور التكنولوجي الحديث.
وبذلك يمكن القول أن النظرة المتدنية بدأت تتلاشى. ج- العمل المهني في الإسلام اهتم الإسلام بالعمل المهني بمفهومه العام والاصطلاحي وجعله من القيم التي حرص عليها الإسلام، وذلك أنه يدفع إلى تطور البلاد
وزيادة الإنتاج، ففي مخاطبة الله سبحانه وتعالى نبيه نوحاً عليه السلام مغزى صريح لأهمية الصناعة في حياة الإنسان والمجتمع، قال تعالى {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا}، وفي قصص الأنبياء وأحاديث
الرسول ص توجيهات تربوية نستوحي منها أهمية الصناعة والزراعة والتجارة والمهن الأُخر في حياة المجتمعات، وقد حرص الغرب على أن يبقى المسلمون محتاجين إلى علومهم وصناعتهم وإنتاجاتهم التقنية التي غزت أسواقنا
ووفرت الاحتياجات الأساسية والكمالية، ولاسيما الكمالية منها، مما أضعف اشتغالنا بالصناعة، ولئلا يكون ذلك هدماً لحضارتهم لنستمع إلى ما قاله أحد الساسة الفرنسيين في هذا الشأن: «إن العالم الإسلامي يقعد
اليوم فوق ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة، فلنعط هذا العالم ما يشاء ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة وتحرر
العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه عن مجاراة الغرب في الإنتاج فقد بؤنا بالإخفاق السريع، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً يتعرض به التراث الغربي لكارثة
تاريخية ينتهي بها الغرب وتنتهي معه وظيفته القيادية». وقد اعتنى القرآن الكريم بالعمل المهني وجعله نعمة تستوجب الشكر حيث قال تعالى:{ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون}، قال الإمام الرازي:
«يحتمل أن تكون (ما) موصولة بمعنى الذي عملته أي: بالتجارة، كأنه ذكر نوعي ما يأكل الإنسان بهما وهما الزراعة والتجارة». ويقول سيد قطب- رحمه الله-: «مشيئة الله في عمارة هذه الأرض اقتضت أن تكون للناس
حاجات لا ينالونها إلا بالعمل والكد، وفلاحة هذه الأرض، وصناعة خاماتها، ونقل خيراتها من مكان إلى مكان، وتداول هذه الخيرات وما يقابلها من سلعة أو نقد أو قيم تختلف باختلاف الزمان والمكان. كما اقتضت أن
يتفاوت الناس في المواهب والاستعدادات وفق حاجات الخلافة الكامنة في هذه الأرض. وهذه الخلافة لا تحتاج إلى المواهب والاستعدادات المتعلقة بجمع المال والأرزاق وحدها، وإنما تحتاج إلى مواهب واستعدادات أخر قد
تحقق ضرورات أساسية لكافة الجنس الإنساني في الأرض، بينما يفوتها جمع المال والأرزاق ويعوزها». وقد ذكرالضرب في الأرض في القرآن الكريم بمعنى السير فيها للتكسب بالعمل والتجارة والضرب هو البعد في الأرض،
ولعل المضاربة مأخوذة من ذلك وهي أن تعطي إنساناً من مالك ما يتجر فيه. وقد فسر قوله تعالى {وآخرون يضربون في الأرض} بأنه التقلب للتجارة كما فسر قوله تعالى {.. لا يستطيعون ضرباً في الأرض} بأنه السعي
للكسب. وقد نوه القرآن الكريم بشأن كثير من الصناعات، ومن ذلك: - صناعة الحديد {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}. - صناعة الأكسية {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين}. - صناعة
الدروع {وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد}. قالوا: درع سابغ تام واصع، والسرد حرز ما يخشن ويغلظ كنسج الدروع وخرز الجلد واستعير هنا لنظم الحديد. - وصناعة الجلود {وجعل لكم من جلود الأنعام
بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم}. - صناعة السرابيل: {.. وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم} - قالوا: السربال: القميص من أي شيء كان، فقد يكون من القطن والكتان وغيرها، وقيل: هي ما
لبس من قميص ودروع فهو سربال. - الصناعات المسكنية {.. وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً). - صناعة السفن والمراكب {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا} يقول الفارابي:
«إن فضيلة العلوم والصناعات تكون بإحدى ثلاث إما بشرف الموضوع، وإما باستقصاء البراهين بعظم الجدوى التي فيه. وأما ما يفضل على غيره بعظم الجدوى التي فيه فالعلوم الشرعية والصنائع». ومما يؤكد أهمية العمل
المهني ومكانته في الإسلام أنه قاعدة البناء الهرمي للعمل وهي أوســعه حيث تشمل العمال والمهنيين ومن يقاربهم وا