اخرج البخاري ليعقوب بن إبراهيم، واخرج كذلك لأبي نعيم الفضل بن دكين أحاديث في صحيحه، واخرج كذلك لهشام بن عمار في غير مكان من صحيحه، واخرج كذلك
لعفان بن مسلم في عدة مواضع أيضا، وكان كل واحد منهم يأخذ الأجرة في مقابل تحديثه بالرواية.
قال النسائي: (يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه. قال أبو
عبد الرحمن كان يعقوب لا يحدث بهذا الحديث إلا بدينار). (سنن النسائي ج 1 ص 49).
وقال السمعاني نقلا عن أبي أحمد عبد الله بن عدي الحافظ بجرجان قال: (سمعت قسطنطين بن عبد الله الرومي مولى المعتمد على الله أمير المؤمنين يقول حضرت مجلس هشام بن عمار فقال له المستملي من ذكرت فقال حدثنا
بعض مشائخنا ثم نعس ثم قال له من ذكرت فنعس فقال المستملي لا تنتفعوا به فجمعوا له شيئا فأعطوه فكان بعد ذلك يملي عليهم). (أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني ص 121).
وعن ابن حجر قال: (وقال ابن وارة عزمت زمانا أن امسك عن حديث هشام لأنه كان يبيع الحديث وقال صالح بن محمد كان يأخذ على الحديث ولا يحدث ما لم يأخذ وقال الإسماعيلي عن عبد الله بن محمد بن سيار كان هشام
يلقن وكان يلقن كل شيء ما كان من حديثه وكان يقول أنا قد خرجت هذه الأحاديث صحاحا وقال الله تعالى فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه. وكان يأخذ على كل ورقتين درهمين ويشارط ولما لمته على
التلقين قال أنا أعرف حديثي ثم قال لي بعد ساعة إن كنت تشتهي أن تعلم فأدخل إسنادا في شيء فتفقدت الأسانيد التي فيها قليل اضطراب فسألته عنها فكان يمر فيها). (تهذيب التهذيب لابن حجر ج 11 ص 48).
إخراجه لأحاديث رواة كانوا من المشهورين بالتدليس
التدليس في اللغة هو المخادعة وعدم تبيان العيب، قال الفراهيدي: (دلس: ودلّس في البيع وفي كل شيء إذا لم يبين له عيبه). (كتاب العين للخليل الفراهيدي ج 7 ص 228).
وقال ابن منظور بعد أن ذكر كلام الفراهيدي نفسه: (والتدليس في البيع: كتمان عيب السلعة عن المشتري، قال الأزهري: ومن هذا أخذ التدليس في الإسناد وهو أن يحدث المحدث عن الشيخ الأكبر وقد كان رآه إلا أنه سمع
ما أسنده إليه من غيره من دونه، وقد فعل ذلك جماعة من الثقات). (لسان العرب لابن منظور ج 6 ص 86).
أما في اصطلاح الفقهاء والمحدثين فالتدليس وكما يقول محمد قلعجي في معجم لغة الفقهاء هو: (عند الفقهاء: إخفاء العيب في السلعة... عند المحدثين: أن يروي عمن لقيه ولم يسمع منه، أو يروي عن شخص يوهم أنه
غيره). (معجم لغة الفقهاء لمحمد قلعجي ص 126).
والتدليس من العيوب التي ابتلي فيها كثير من الرواة، وهو صفة مذمومة عند أئمة الحديث وشيوخه، فقد عدها شعبة اشد من الزنا فقد كان يقول: (التدليس في الحديث أشد من الزنا ولان أسقط من السماء أحب إلي من أن
أدلس). (الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 393).
والتدليس كان يعد عند أعلام السنة مرادفا للكذب، كما نقله الحسن بن علي حيث كان: (يقول سمعت أبا أسامة يقول خرب الله بيوت المدلسين ما هم عندي إلا كذابون). (المصدر السابق).
وعن خالد بن خداش: (قال سمعت حماد بن زيد يقول التدليس كذب ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور قال حماد ولا أعلم المدلس إلا متشبعا بما لم يعط). (المصدر السابق
ص394).
أكثر من تسعين بالمائة من روايات البخاري نقلت عن رواة اشتهروا بالتدليس
أقول: وقد روى البخاري لأشخاص عرفوا بالتدليس، عدهم البعض بثمانية وستين راويا، اخرج لهم ما يقارب ستة آلاف ومائتين واثنين وسبعين ما بين رواية أو تعليق، وهي نسبة مهولة، تعني ان أكثر من تسعين بالمائة من
أحاديثه ورواياته قد تم نقلها من أناس اشتهروا بالتدليس.
تحديث للسؤال برقم 1
رأي الدكتور عواد الخلف في عدد المدلسين في صحيح البخاري
وقد عثرت وفي أثناء تتبعي لموضوع المدلسين في صحيح البخاري على كتاب باسم (روايات المدلسين في صحيح البخاري، جمعها ــ تخريجها ــ الكلام عليها) للدكتور عواد الخلف، وهو من أهل السنة، وبحثه عبارة عن رسالة
علمية حصل بها الباحث على درجة الدكتوراه في أصول الدين من كلية أصول الدين بجامعة القرويين في المغرب، وقد ذكر الدكتور عواد الخلف في كتابه هذا تلك الأرقام الكبيرة التي ذكرناها آنفا، حيث تتبع جميع رجال
البخاري بحسب طبقاتهم وذكر أسماءهم وعدد رواياتهم وخرج برقم قاطع هو ما ذكرناه سابقا.
ابن حجر يضع قاعدة شيطانية للخروج من هذا المأزق
غير انه وبعد ذكره لهذا العدد الهائل من المدلسين ورواياتهم،طبق ما اقترحه ابن حجر في كتابه (مقدمة فتح الباري) والذي وضع قاعدة للتعامل مع روايات المدلسين في كتاب صحيح البخاري أوضحها بقوله: (فحكم من ذكر
من رجاله ــ أي صحيح البخاري ــ بتدليس أو إرسال أن تسبر أحاديثهم الموجودة عنده بالعنعنة فإن وجد التصريح بالسماع فيها اندفع الاعتراض وإلا فلا). (مقدمة فتح الباري لابن حجر ص382).
قاعدة ابن حجر لا تنجي البخاري من ورطته
ولكن قاعدة ابن حجر هذه لم تنج صحيح البخاري من ورطته، فقد سبر الدكتور عواد الخلف في كتابه أحاديث البخاري فأخرج تسعة وعشرين راويا روى لهم البخاري ما يقارب ثمانمائة واثنتين وعشرين رواية لم يصرح فيها
بالسماع فتكون مردودة بحسب القاعدة التي بناها ابن حجر في كيفية التعامل مع روايات المدلسين في صحيح البخاري.
أقول: والدكتور عواد الخلف وان كان قد فارق الحق في كثير ممن اخرج أحاديثهم من دائرة الرد والرفض إلى دائرة القبول، إلا ان العدد النهائي الذي خرج به يعد كبيرا جدا، يجعل من صحيح البخاري كتابا غير دقيق
بالمرة ويحطم تلك النظرة الفاضلة التي حاول المغرضون رسمها وترسيخها في أذهان الناس.
تحديث للسؤال برقم 2
http://imamhussain-lib.com/arabic/pages/bohoth048.php