(24) والارض بعد ذلك دحاها اخرج منها ماءها ومرعاها)
جاءت هذه الايه الكريمه في مطلع الربع الاخير من سوره النازعات, وهي سوره مكيه, تعني كغيرها من سور القران المكي بقضيه العقيده, ومن اسسها الايمان بالله, وملائكته, وكتبه ورسله, واليوم الاخر,
وغالبيه الناس منشغلين عن الاخره واحوالها, والساعه واهوالها, وعن قضايا البعث, والحساب, والجنه, والنار وهي محور هذه السوره.
وتبدا السوره الكريمه بقسم من الله( تعالي) بعدد من طوائف ملائكته الكرام, وبالمهام الجسام المكلفين بها, او بعدد من اياته الكونيه المبهره, علي ان الاخره حق واقع, وان البعث والحساب امر
جازم, وربنا( تبارك وتعالي) غني عن القسم لعباده, ولكن الايات القرانيه تاتي في صيغه القسم لتنبيه الناس الي خطوره الامر المقسم به, واهميته او حتميته.
ثم تعرض الايات لشيء من اهوال الاخره مثل( الراجفه والرادفه) وهما الارض والسماء وكل منهما يدمر في الاخره, او النفختان الاولي التي تميت كل حي, والثانيه التي تحيي كل ميت باذن الله, وتنتقل
الايات الي وصف حال الكفار, والمشركين, والملاحده, المتشككين, العاصين لاوامر رب العالمين في ذلك اليوم الرهيب, وقلوبهم خائفه وجله, وابصارهم خاشعه ذليله, بعد ان كانوا ينكرون البعث في
الدنيا, ويتساءلون عنه استبعادا له, واستهزاء به: هل في الامكان ان نبعث من جديد بعد ان تبلي الاجساد, وتنخر العظام؟ وترد الايات عليهم حاسمه قاطعه بقرار الله الخالق ان الامر بالبعث صيحه واحده
فاذا بكافه الخلائق قيام يبعثون من قبورهم ليواجهوا الحساب, او كانهم حين يبعثون يظنون انهم عائدون للدنيا مره ثانيه فيفاجاون بالاخره...
وبعد ذلك تلمح الايات الي قصه موسي( عليه السلام) مع فرعون وملئه, من قبيل مواساه رسولنا( صلي الله عليه وسلم) في الشدائد التي كان يلقاها من الكفار, وتحذيرهم مما حل بفرعون وبالمكذبين من قومه
من عذاب, وجعل ذلك عبره لكل عاقل يخشي الله( تعالي) ويخاف حسابه.
ثم تتوجه الايات بالخطاب الي منكري البعث من كفار قريش والي الناس عامه بسوال تقريعي توبيخي: هل خلق الناس علي ضاله احجامهم, ومحدوديه قدراتهم, واعمارهم, واماكنهم من الكون اشد من خلق السماء
وبنائها, ورفعها بلا عمد مرئيه الي هذا العلو الشاهق مع ضخامه ابعادها, وتعدد اجرامها, ودقه المسافات بينها, واحكام حركاتها, وتعاظم القوي الممسكه بها؟ واظلام ليلها, واناره نهارها؟ واشد من دحو
الارض, واخراج مائها ومرعاها منها بعد ذلك, وارساء الجبال عليها, وارساء الارض بها, تحقيقا لسلامتهم وامنهم علي سطح الارض, ولسلامه انعامهم ومواشيهم.
وبعد الاشاره الي بديع صنع الله في خلق السماوات والارض كدليل قاطع علي امكانيه البعث عاودت الايات الحديث عن القيامه وسمتها( بالطامه الكبري) لانها داهيه عظمي تعم باهوالها كل شيء, وتغطي علي كل
مصيبه مهما عظمت, وفي ذلك اليوم يتذكر الانسان اعماله من الخير والشر, ويراه مدونا في صحيفه اعماله, وبرزت جهنم للناظرين, فراها كل انسان عيانا بيانا, وحينئذ ينقسم الناس الي شقي وسعيد, فالشقي
هو الذي جاوز الحد في الكفر والعصيان, وفضل الدنيا علي الاخره, وهذا ماواه جهنم وبئس المصير, والسعيد هو الذي نهي نفسه عن اتباع هواها انطلاقا من مخافه مقامه بين يدي ربه يوم الحساب, وهذا ماواه
ومصيره الي جنات النعيم باذن الله.
وتختتم السوره بخطاب الي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) متعلق بسوال كفار قريش له عن الساعه متي قيامها؟, وترد الايات بان علمها عندالله الذي استاثر به, دون كافه خلقه, فمردها ومرجعها الي الله
وحده, واما دورك ايها النبي الخاتم والرسول الخاتم فهو انذار من يخشاها, وهولاء الكفار والمشركون يوم يشاهدون قيامها فان هول المفاجاه سوف يمحو من الذاكره معيشتهم علي الارض, فيرونها كانها كانت ساعه
من ليل او نهار, بمقدار عشيه او ضحاها, احتقارا للحياه الدنيا, واستهانه بشانها امام الاخره, وياتي ختام السوره متوافقا مع مطلعها الذي اقسم فيه ربنا( تبارك وتعالي) علي حقيقه البعث وحتميته,
واهواله وخطورته, لزياده التاكيد علي انه اخطر حقائق الكون واهم احداثه, لكي يتم تناسق البدء مع الختام, وهذا من صفات العديد من سور القران الكريم.
وهنا يبرز التساول عن معني دحو الارض, وعلاقته باخراج مائها ومرعاها, ووضعه في مقابله مع بناء السماء ورفعها علي عظم هذا البناء وذلك الرفع كصوره واقعه لطلاقه القدره المبدعه في الخلق, وقبل التعرض
لذلك لابد من استعراض الدلاله اللغويه للفظه الدحو الوارده في الايه الكريمه:
الدلاله اللغويه لدحو الارض
(الدحو) في اللغه العربيه هو المد والبسط والالقاء, يقال:( دحا) الشيء( يدحوه)( دحوا) اي بسطه ومده, او القاه ودحرجه, ويقال:( دحا) المطر الحصي عن وجه الارض اي دحرجه وجرفه,
ويقال: مر الفرس( يدحو)( دحوا) اذا جر يده علي وجه الارض فيدحو ترابها و(مدحي) النعامه هو موضع بيضها, و(ادحيها) موضعها الذي تفرخ فيه.
شروح المفسرين للايه الكريمه:
في شرح الايه الكريمه:(والارض بعد ذلك دحاها) ذكر ابن كثير( يرحمه الله) مانصه: فسره بقوله تعالي( اخرج منها ماءها ومرعاها), وقد تقدم في سوره فصلت ان الارض خلقت قبل خلق السماء, ولكن انما
دحيت بعد خلق السماء بمعني انه اخرج ما كان فيها بالقوه الي الفعل, عن ابن عباس( دحاها) ودحيها ان اخرج منها الماء والمرعي, وشقق فيها الانهار, وجعل فيها الجبال والرمال, والسبل والاكام, فذلك
قوله:( والارض بعد ذلك دحاها)....
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله):( والارض بعد ذلك دحاها) اي بسطها ومهدها لتكون صالحه للحياه, وكانت مخلوقه قبل السماء من غير دحو.( اخرج) حال باضمار قد اي: دحاها مخرجا( منها
ماءها ومرعاها) بتفجير عيونها, و(مرعاها) ماترعاه النعم من الشجر والعشب, وماياكله الناس من الاقوات والثمار, واطلاق المرعي عليه استعاره.
وذكر صاحب الظلال( يرحمه الله): ودحو الارض تمهيدها وبسط قشرتها, بحيث تصبح صالحه للسير عليها, وتكوين تربه تصلح للانبات,..., والله اخرج من الارض ماءها سواء مايتفجر من الينابيع, او ماينزل من
السماء فهو اصلا من مائها الذي تبخر ثم نزل في صوره مطر; واخرج من الارض مرعاها, وهو النبات الذي ياكله الناس والانعام, وتعيش عليه الاحياء مباشره او بالواسطه..
وجاء في( صفوه البيان لمعاني القران):' ودحا الارض بمعني بسطها واوسعها, بعد ذكر ذلك الذي ذكره من بناء السماء, ورفع سمكها, وتسويتها, واغطاش ليلها, واظهار نهارها, وقد بين الله الدحو
بقوله:( اخرج منها ماءها) بتفجير العيون, واجراء الانهار والبحار العظام.( ومرعاها) اي جميع مايقتات به الناس والدواب بقرينه قوله بعد:( متاعا لكم ولانعامكم)........ واخبرنا بعد ذلك بانه هو
الذي بسط الارض, ومهدها لسكني اهلها ومعيشتهم فيها: وقدم الخبر الاول لانه ادل علي القدره الباهره لعظم السماء, وانطوائها علي الاعاجيب التي تحار فيها العقول. فبعديه الدحو انما هي في الذكر لا في
الايجاد, وبجعل المشار اليه هو ذكر المذكورات من البناء وما عطف عليها لا انفسها, لايكون في الايه دليل علي تاخر الدحو عن خلق السماوات وما فيها.....'.
وجاء في( صفوه التفاسير):( والارض بعد ذلك دحاها) اي والارض بعد خلق السماء بسطها ومهدها لسكني اهلها( اخرج منها ماءها ومرعاها) اي اخرج من الارض عيون الماء المتفجره, واجري فيها الانهار,
وانبت فيها الكلا والمرعي مما ياكله الناس والانعام'.
وجاء في( المنتخب في تفسير القران الكريم):' والارض بعد ذلك بسطها ومهدها لسكني اهلها, واخرج منها ماءها بتفجير عيونها, واجراء انهارها, وانبات نباتها ليقتات به الناس والدواب..
وهذا الاستعراض يدل علي ان المفسرين السابقين يجمعون علي ان من معاني دحو الارض هو اخراج الماء والمرعي من داخلها, علي هيئه العيون وانبات النبات.
دحو الارض في العلوم الكونيه
اولا: اخراج كل ماء الارض من جوفها:
كوكب الارض هو اغني كواكب مجموعتنا الشمسيه في المياه, ولذلك يطلق عليه اسم( الكوكب المائي) او( الكوكب الازرق) وتغطي المياه نحو71% من مساحه الارض, بينما تشغل اليابسه نحو29% فقط من مساحه
سطحها, وتقدر كميه المياه علي سطح الارض بنحو1360 مليون كيلومتر مكعب(1.36*910); وقد حار العلماء منذ القدم في تفسير كيفيه تجمع هذا الكم الهائل من المياه علي سطح الارض, من اين اتي؟ وكيف
نشا؟
وقد وضعت نظريات عديده لتفسير نشاه الغلاف المائي للارض, تقترح احداها نشاه ماء الارض في المراحل الاولي من خلق الارض, وذلك بتفاعل كل من غازي الايدروجين والاوكسيجين في حالتهما الذريه في الغلاف الغازي
المحيط بالارض, وتقترح ثانيه ان ماء الارض اصله من جليد المذنبات, وتري ثالثه ان كل ماء الارض قد اخرج اصلا من داخل الارض.والشواهد العديده التي تجمعت لدي العلماء توكد ان كل ماء الارض قد اخرج اصلا<