نزل القرآن منجما (متفرقا) علي رسول الله لفترة ما يقرب من٢٣ عاما منذ أن بدأ النبي دعوته في مكة (عام ٦١٠ ميلادية) وحتي
وفاته في المدينة المنورة (عام ٦٣٢ ميلادية)، ولم يكن ترتيب الآيات والسور علي ترتيب النزول، وقد أمر الرسول أصحابه بحفظ القرآن في صدورهم، وبعد ذلك طلب منهم أن يحفظوه في السطور ويكتبوا آياته، وهناك حديث
في «صحيح مسلم» عن الرسول (ص) إذ يقول: (لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القرآن فليمحه)،
ومن هذا الحديث يمكن أن نفهم أن الرسول طالب أصحابه بكتابة آيات القرآن لمزيد من الحماية ونهي عن كتابة أي شيء آخر خشية التباسه، وكان صحابة الرسول يستعملون في كتابة القرآن ما يتوفر في بيئتهم من أدوات
لهذا الغرض، فكانوا يكتبون علي الجلود والعظام والألواح والحجارة ونحوها، لكن الثابت والمتفق عليه أن النبي توفي والقرآن الكريم لم يجمع في مصحف واحد مكتوب.
وجاءت المحاولة الأولي لجمع القرآن في كتاب واحد علي يد أبي بكر الصديق، خاصة بعد معركة «اليمامة» وهي إحدي المعارك الكبري التي خاضها أبوبكر ضد المرتدين، وفي هذه الواقعة قُتل عدد كبير من الصحابة، وكان
بينهم عدد كبير من القراء وحافظو القرآن، فذهب عمر بن الخطاب إلي أبي بكر وطلب منه الإسراع في جمع القرآن وتدوينه، حتي لا يذهب بذهاب حفاظه.
ووقع اختيار الصديق علي زيد بن ثابت لتولي مهمة جمع القرآن في كتاب واحد، وكان من أسباب هذا الاختيار أن زيدًا كان من كتاب الوحي، وكان حافظاً للقرآن عن ظهر قلب، وكان حفظه في زمن النبي صلي الله عليه وسلم
وفق العرضة الأخيرة، فقد رُوي أنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن،
قال أبو عبد الرحمن السلمي: «قرأ زيد بن ثابت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سُميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلي الله عليه وسلم
وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتي مات».
وكان زيد قد استشعر ثقل المهمة في البداية خاصة أنه سيقوم بعمل لم يقم به من قبل رسول الله، لكن أبي بكر وعمر أقنعاه بأهمية المهمة وانشرح صدره لها، وفي حديث للبخاري علي لسان زيد أنه قال: (فقمت فتتبعت
القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعُسب وصدور الرجال).
ورغم الاتفاق علي أن أبا بكر جمع القرآن كاملا في كتاب واحد إلا أن هذا الكتاب لم يتم نسخه وتوزيعه حيث احتفظ أبوبكر بالصحف التي جمع فيها القرآن، ثم عند عمر، ثم عند حفصة بنت عمر بعد وفاته.
ومع استمرار الفتوحات الإسلامية، ودخول الكثيرين في الإسلام من بلدان مختلفة، وتعدد القراءات في الأمصار لدرجة أثارت بعض الفتن، فكر الخليفة الثالث عثمان بن عفان في نسخ المصاحف وتوحيدها في جميع
الأمصار،
وذكر البخاري في صحيحه حديثا يوضح المرحلة التي بدأ فيها عثمان جمع القرآن للمرة الثانية وتوحيد القراءات المختلفة، وتقول القصة إن حذيفة بن اليمان كان في إحدي الغزوات مع مقاتلين من أهل الشام وأهل العراق،
وأنه فزع من اختلافهم في قراءة القرآن،
وطالب الخليفة بإدراك الأمة قبل أن تتفرق، فشكل عثمان لجنة لهذا الغرض اعتمادا علي النسخة التي تم جمعها في عهد أبي بكر، وأرسل إلي حفصة بنت عمر وطالبها بإرسال الصحف التي لديها لنسخها، وأمر زيد بن ثابت
وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للقريشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنّه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتّي إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلي حفصة، وأرسل إلي
كلّ أُفقٍ بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفةٍ ومصحفٍ أن يحرق.
هذه الخطوة التي قام بها عثمان جمعت القرآن كله في مصحف واحد موحد تم اعتماده في جميع أنحاء العالم الإسلامي وهو النسخة التي نطالعها حتي اليوم، وأنفذت هذه الخطوة وعد الله بحفظ القرآن إلي الأبد، والحقيقة
أن عثمان لم يقم بجمع جديد للقرآن حيث اعتمد علي النسخة المجموعة في زمن أبي بكر، لكن الخطوة الأهم فيما فعله هي جمع الناس علي قراءةٍ واحدةٍ،
وهي القراءة المتعارفة بينهم والمتواترة عن النبي، صلي الله عليه وسلم، ومنعهم من سائر القراءات الأخري التي توافق بعض لغات العرب، وأيده علي بن أبي طالب في هذه الخطوة.
ورغم قبول الغالبية العظمي لنسخة القرآن التي جمعها عثمان إلا أن البعض رفض أن يتخلي عن نسخته الخاصة التي كان قد جمعها، وعلي رأسهم عبد الله بن مسعود الذي ظل أهل الكوفة يقرأون قرآءاته لفترة طويلة حتي بعد
وصول مصحف عثمان إليهم،
كما استمر وجود بعض مصاحف الصحابة الخاصة مثل أبي بن كعب وأبي موسي وابن عباس وغيرهم، لكن جميع هذه النسخ اختفت لتبقي النسخة التي جمعها عثمان واتفق الصحابة علي أنها النص الكامل والدقيق لكلام الله الذي
أنزله علي رسوله الكريم.