بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثلاثين وهو الدرس الأخير من سلسلة موضوعات حقائق الإيمان والإعجاز ، والموضوع اليوم هو الوعاء الذي يكون فيه العمل ألا وهو الوقت ، والإنسان في أدق أدق تعاريفه بضعة أيام ،
كلما انقضى يوم انقضى بضع منه ، وحينما يدرك الإنسان أنه وقت والوقت يمضي ، ومضي الوقت وحده يستهلك الإنسان ، هذا الفهم الدقيق الذي يعد أصلاً في حقيقة الإنسان ، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع
منه .
لذلك الموفقون في الدنيا يحافظون على أوقاتهم ، بل إن المؤمنين يعدون الوقت أثمن شيء في حياتهم ، لأنه وعاء عملهم ، أي شيء لا يحقق إلا بالوقت ، فالوقت من أجل طلب العلم ، والوقت من أجل العبادة ، والوقت من
أجل كسب الرزق ، والوقت من أجل تربية الأولاد ، والوقت من أجلّ الأعمال الصالحة ، فهذا الوقت أثمن شيء تملكه ، بل هو رأسمالك الوحيد ، بل هو أنت ، ومن علامات البعد عن الله تضييع الوقت ، وإضاعة الوقت من
المقت، والمتخلفون بأفكارهم ، وعقيدتهم ، وسلوكهم ، وأنماط حياتهم ، يضيعون أوقاتهم ، بل إن الوقت يعد أكبر عنصر في الحياة ، الأشياء تحتاج إلى مكان وزمان ، ومادة وعمل ، لكن أثمن عنصر في العمل هو الإنسان
، والإنسان بلا وقت لا قيمة له ، لذلك السورة التي تعد من أخطر السور التي يتعامل معها الإنسان والتي كان الصحابة الكرام لا يتفرقون إلا عليها ، إنها السورة التي قال عنها الإمام الشافعي : " لو تدبر الناس
هذه السورة لكفتهم ". إنها سورة العصر.
لكن قد يسأل سائل ما حقيقة الوقت ؟ أخوتنا الكرام ، النقطة إذا تحركت شكلت خطاً ، ائت بقلم ومسطرة وورقة وحرك هذا القلم على المسطرة ، هذا القلم يرسم خطاً ، فإذا حركت هذا الخط يرسم سطحاً ، فإذا حركت هذا
السطح شكّل حجماً ، عندنا بعدان سطحيان ، عندنا بعد حجمي ، أحياناً عمق أو ارتفاع ، أحياناً بعد ثالث ، صار عندنا النقطة إذا تحركت شكلت خطاً ، والخط إذا تحرك شكل سطحاً ، والسطح إذا تحرك شكل حجماً ،
والحجم إذا تحرك كان وقتاً ، لولا حركة الأرض حول نفسها هل هناك ليل أو نهار ؟ لو ألغي الليل أو النهار ألغي الوقت ، ألغي اليوم ، ألغي الأسبوع ، ألغي الشهر ، ألغي الفصل ، ألغي العام ، ومن حركة الأرض حول
الشمس تكون الفصول الأربعة ، إذاً الوقت هو البعد الرابع للإنسان.
العالم الفيزيائي الكبير الذي جاء بالنظرية النسبية ، والتي قلبت مفاهيم الفيزياء أينشتاين ، هذا العالم اكتشف أن السرعة المطلقة في الكون هي سرعة الضوء ، وأن أي جسم مشى مع الضوء أصبح ضوءاً ، فصار حجمه لا
نهائياً ، أجروا تجربة أنهم بنوا رصيفاً على طول قطار بالتمام والكمال ، وهذا القطار مشى بأعلى سرعة صنعها الإنسان ، وصوروا هذا القطار مع الرصيف فكان هذا القطار أطول من الرصيف مع حركته السريعة ، فلو بلغت
حركته سرعة الضوء لأصبح حجمه لا نهائياً .
أي جسم تحرك مع الضوء أصبح ضوءاً ، وإذا سرنا مع الضوء توقف الزمن ، هذا الدرس العلمي يصدر منه موجات ضوئية إلى الفضاء الخارجي ، مادامت الموجات ضوئية سرعتها ثلاثمئة ألف كيلو متر بالثانية ، لو تمكن إنسان
افتراضاً أن يمشي مع هذه الموجات هذا المنظر يراه إلى أبد الآبدين ، يكون أخواننا الكرام كبروا وأصبحوا أصحاب أعمال كبيرة ، وجميعاً وافتنا المنية بعد مئة عام أو أكثر ، وهذا الذي يمشي مع الموجات الضوئية
يرى هذا المجلس كما هو ، فإذا سار الإنسان مع الضوء توقف الزمن ، فإذا سبق الضوء تراجع الزمن ، هذا المسجد قبل أن يبنى بني على ماذا ؟ كان بستاناً من بساتين الصالحية ، للتقريب لو أمكن أن نسبق الضوء لرأينا
موقعة بدر بأم أعيننا ، فالجسم إذا سار مع الضوء توقف الزمن ، إذا سبق الضوء تراجع الزمن ، إذا قصر عن الضوء تراخى الزمن.
أيها الأخوة ، أنت زمن ، بضعة أيام ، وبضعة ساعات ، وبضعة دقائق ، وبضعة ثوان ، أي الإنسان له عند الله مثلاً ثلاث وثمانون سنة ، وسبعة أشهر ، وثلاثة أسابيع ، وأربعة أيام ، وخمس ساعات ، وأربع دقائق ،
وثمان ثوان ، انظر إلى الساعة كل حركة ثانية هذه تقتطع من عمرك ، بالثانية ، فأنت بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ، أنت زمن ، أو أن الزمن رأسمالك ، أو أن الزمن أثمن شيء تملكه ، البطولة إدارة
الوقت ، البطولة أن تستفيد من الوقت ، لو سألتكم من هو أعظم إنسان على الإطلاق استفاد من الوقت؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذلك أقسم الله بعمره الثمين فقال له :
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ .
( سورة الحجر )
والإنسان يوم القيامة لا يندم إلا على ساعة مرت لم يذكر الله فيها ، وكلما تفوق الإنسان وكلما وفق الإنسان أدار وقته إدارة صحيحة ، ونظم وقته .
كنت في ماليزيا حدثونا أن رئيسهم سبب نجاحه الكبير ـ ماليزيا دولة لا يزيد سكانها عن ثلاثة وعشرين مليوناً ، كانوا في الغابات قبل خمس وعشرين سنة ، والآن صادراتها إلى العالم يفوق صادرات العالم العربي
بأكمله بما فيه النفط ، قبل سنوات عندهم فائض ستين مليار دولار ـ أنه يحمل دفتراً في جيبه ، وأي شيء خطر في باله يسجله فيه ، أن تستخدم دفتراً أي خاطر ، أي فكرة ، أي مشروع ، أي عمل ، أي اتصال ، أي إنجاز
سجلته ، أنت دائماً أمام قائمة أعمال ، يمكن أن ترفع إنتاج أعمالك إلى عشرة أضعاف عن طريق التسجيل ، أضرب لكم مثلاً ، قد تحتاج إلى شيء في البيت لا تكتبه تنسى أن تشتريه ، تظهر هذه الحاجة عند إرادة
استعمالها ، لا يوجد شمع عندنا ، الكهرباء انطفأت يجب أن أشتري شمعاً ، يمكن أن يمضي العام بأكمله وتنسى أن تشتري ، لأن الحاجة تظهر عند انطفاء الكهرباء فقط ، أما لو كتبت شراء شمع ، ثاني يوم يكون عندك شمع
، وقس على ذلك كل شيء .
قالوا : أسوأ قلم أفضل من أقوى ذاكرة ، فالوقت إدارته ، هناك وقت لأهلك ، ووقت لعملك ، ووقت لربك ، ووقت لعباداتك ، ووقت لقراءة القرآن ، ووقت للعمل الصالح ، ووقت لصلة الرحم ، اكتب برنامجاً ، برنامج
أسبوعي من الساعة كذا إلى الساعة كذا في البيت ، من الساعة كذا إلى الساعة كذا في المسجد ، من الساعة كذا إلى كذا في كذا ، اكتب ، إما أن تخطط وإما أن يخطط لك ، إما أن تكون رقماً صعباً وإما أن تكون رقماً
تافهاً عند أصحاب الأرقام الصعبة ، لذلك أيها الأخوة الكرام ، الله عز وجل أقسم بعمر هذا الإنسان الذي هو المخلوق الأول ، أقسم له بمطلق الزمن ، بالعصر ، وجاء جواب القسم : ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي
خُسْرٍ ﴾ ، خاسر ، والله مرة فتحت كتاباً مصدراً بأربعة أدعية إن قرأتها يقشعر جلدك ، من هذه الأدعية : " اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني " ، أي أنت تقرأ حديثاً ، تقرأ معاني كلماته ،
تقرأ سنده ، تقرأ رواياته ، تقرأ شرحه ، تحلله ، تستنبط منه استنباطات عديدة ، وتلقيه درساً ، والذين استمعوا لهذا الدرس انتفعوا به فطبقوه فقطفوا ثماره ، وهذا الذي حدثهم به لم يطبقه ، فيأتي يوم القيامة
وقد انتفع الناس بعلمه وشقي هو بعلمه ، اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني .
الدعاء الثاني : " اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ، ألتمس به أحداً سواك ".
أحياناً إنسان يشعر أن مصلحته أن يتحدث بالدين ، يتحدث بالدين أمام إنسان بيده دنيا عريضة ، وهذا الحديث بالدين يملك قلب هذا الإنسان ، هو يريد ماله بالحديث عن الله عز وجل ، اللهم إني أعوذ بك أن أقول
قولاً فيه رضاك ، ألتمس به أحداً سواك .
الدعاء الثالث : "اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك ".
يمكن أن ترتدي يوم الجمعة ثياباً بيضاء ، أنيقة ، مكوية ، وعطر مسك ، ومسبحة تركواز ، شيء رائع أين أمضيت ليلة الجمعة ؟ اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك .
آخر دعاء :" اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك ".
أيها الأخوة الكرام ، المسرح فيه خشبة وفيه مقاعد للمشاهدين ، فالمستقيم له مقعد مع المشاهدين ، وغير المستقيم يجر إلى خشبة المسرح ويصبح قصة ، لذلك قال تعالى:
﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ .
( سورة المؤمنون الآية : 44 )
كنت مرة في متحف في القاهرة ، المماليك دعي قادتهم إلى وليمة فخمة جداً ، وفي أثناء الوليمة تحت المقاعد يوجد سيوف قطعت رؤوسهم جميعاً ، ونجا واحد منهم أخبر بما حصل ، فكلما زار وفد سياحي هذه القاعة
الكبيرة ذكرت هذه القصة ، هؤلاء المماليك أصبحوا أحاديث ، لذلك : " اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك ". أن أكون أنا قصة ، فإذا كنت مستقيماً فأنت في ظل الله ، أنت في ستر الله ، أنت في رعاية
الله ، أنت في حفظ الله ، أنت في توفيق الله .
أيها الأخوة الكرام ، لذلك الله عز وجل أقسم بالعصر ، بمطلق الزمن لهذا المخلوق الأول الذي هو في حقيقته زمن ، فقال تعالى :
﴿ وَالْعَصْرِ (1) ﴾
( سورة العصر )
جواب القسم :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ﴾
( سورة العصر )
أي مضي الوقت وحده يستهلك الإنسان ، هناك بناء بأرقى أحياء دمشق ، البيت الواحد ثمنه مئة وثمانون مليوناً فما فوق ، الشيء الذي لا يصدق أن كل من اشترى بيتاً في هذا البناء لم يسكنه مات قبل أن يسكنه إلا
واحداً أتيح له أن