المسألة الأولى: وقت التعـــــجل:
اختلف الفقهاء في ابتداء وقت النفر للمتعجل في اليوم الثاني عشر، وقد كان لاختلافهم في حكم الرمي قبل الزوال في يوم النفر الأول أثر في ذلك، فمن منعه، منع النفر من منى قبل الزوال، وأما من أجازه، فمنهم من
أجاز النفر بعده من منى قبل الزوال، ومنهم من منع(2)، وهي مسألة خلافية معروفة، وفيها بحوث مختصة ليس هذا موضع ذكرها.
والمقصود هنا ذكر آخر وقت لنفر المتعجل من منى، حيث اختلف الفقهاء في ذلك على أقوال، أبرزها قولان:
القول الأول: إن آخر وقت النفر من منى للمتعجل هو قبيل غروب شمس اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، وهو ثاني أيام التشريق، فإن غربت شمسه لزمه المبيت والرمي يوم الثالث عشر، وهو قول عند الحنفية، ومذهب المالكية
والشافعية والحنابلة(3).
القول الثاني: إن آخر وقت النفر من منى للمتعجل يكون قبل طلوع فجر اليوم الثالث عشر، وهو مذهب الحنفية.(4)
الأدلة:
أدلة القول الأول:
1-قوله تعالى: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون) [البقرة: 203].
وجه الدلالة: أن اليوم اسم للنهار و قد وقع ظرفا للتعجل، فمن نفر في الليل فما تعجل في يومين. (5)
2-ماروى مالك-رحمه الله- في موطأه عن ابن عمر رضي الله عنه: من غربت عليه الشمس وهو بمنى من أوسط أيام التشريق فلا ينفر حتى يرمي الجمار".(6)
أدلة القول الثاني:
1- أن الليل ليس وقتا لرمي جمار الثالث عشر فكان وقتا للنفر، كالنفر قبل الغروب.(7)
ويناقش: بعدم التسليم، لمخالفته ظاهر القرآن، والآثار، ولأنه لا يلزم من عدم مشروعية رمي جمار الثالث عشر جواز النفر.
2-أن الليلة تابعة لليوم قبلها، فيجوز فيها النفر كما يجوز في اليوم.(8)
ويناقش: بعدم التسليم، لمخالفته ظاهر القرآن، والآثار، وأن الأدلة منعت من تبعية الليل للنهار في هذا الحكم.
الترجيح: يترجح القول الأول لقوة أدلته، لاسيما و قد تأيد ذلك بفهم بعض الصحابة-رضي الله عنهم أجمعين- والتابعين، وهو كالتفسير للنص القرآني، مع كونه مما يبعد قوله بالرأي، ولم يعرف مخالف من الصحابة لهذا
القول مع كونه مما يشتهر، فكان القول به أرجح، والله أعلم.
المسألة الثانية: من غربت عليه الشمس وهو مشتغل بالارتحال لكنه لم يبرح مكانه، أو ارتحل ولم يخرج من منى.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يلزمه المبيت والرمي من الغد. وهو مذهب المالكية(9) والحنابلة وقول عند الشافعية. (10).
القول الثاني: لا يلزمه المبيت ولا الرمي من الغد.وهو مذهب الحنفية والشافعية(11).
الأدلة:
دليل القول الأول:
أنه يصدق عليه أنه غربت عليه الشمس في منى فلم يتعجل في يومين.
أدلة القول الثاني:
1-أن في تكليفه الرجوع وحل الرحل والمتاع مشقة عليه.
2-أنه في حكم المتعجل لكونه مشتغلاً بالتعجل(12).
الترجيح: يترجح القول الثاني لقوة أدلته، لاسيما إن كان المتعجل مشتغلاً بالارتحال بغير قصد التأخر حتى بعد الغروب، وكذا إن كان في سائرًا في طريق الارتحال بل هو أولى بالحكم من سابقه.
المسألة الثالثة: حكم التعجل بالـــنية.
ومما يتصل بالمسألة السابقة، حكم تعجل الحاج بنيته فقط، من دون ارتحال أو اشتغال به، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يشترط الخروج من منى، ولا تكفي النية. وهو مذهب الحنفية والشافية والحنابلة (13).
القول الثاني: الاكتفاء بنية الخروج من منى قبل الغروب ولو لم ينفر منها وينفصل عنها، وهو مذهب المالكية في غير المكي(14).
الأدلة:
أدلة القول الأول:
1-قوله تعالى: ( وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون) [البقرة: 203].
وجه الدلالة: أن ظاهر الآية دال على أنه لا بد من الخروج عن منى و إلا لم يكن ثم فرق بين المتعجل والمتأخر، فقد قال الله" من تعجل" ولم يقل من أراد التعجل.
2-عن يحي بن يعمر -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه )(15).
3-عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: من غربت عليه الشمس وهو بمنى من أوسط أيام التشريق فلا ينفر حتى يرمي الجمار(16).
وجه الدلالة: أن هذا الأثر يدل على أن من لم يخرج قبل الغروب فليس متعجلاً.
دليل القول الثاني:
لم أقف لهم على دليل، ولعلهم جعلوا النية كافية في قطع الارتباط بالعبادة والانفصال عنها، وهذا معارض بالأدلة المتقدمة التي تبين اشتراط الفعل لتحقق النفر.
الترجيح: يترجح القول الأول لقوة أدلته إلا إذا كان مبيت الحاج ليالي التشريق خارج منى كمزدلفة لعذر، فإن الظاهر أن النية تكفي هنا؛ لأنه مكان ضرورة وتختلف أحكامه عن منى، وقد علقت النصوص الأحكام بمنى
واختصتها بها(17).
المسألة الرابعة: حكم رجوع الحاج المتعجل لمنى بعد خروجه منها.
إذا رمى الحاج الجمار يوم الثاني عشر ثم نفر قبل الغروب، وعاد بعد الغروب لمنى لزيارة أو غرض أو نحو ذلك، ومكث في منى قليلاً أو كثيراً، فهل يلزمه المبيت والرمي من الغد، أم لا؟ قولان للفقهاء:
القول الأول: لا يلزمه المبيت والرمي من الغد. وهو مذهب الشافعية والحنابلة(18).
القول الثاني: لزوم المبيت والرمي، وهو قول للشافعية(19).
الأدلة:
دليل القول الأول:
أن الرخصة حصلت بالرمي والتعجل، فتنقطع عمن خرج بعدها أحكام المناسك في منى، ويكون في رجوعه كالمتبرع، فلم يلزمه المبيت ولا الرمي(20).
دليل القول الثاني: أن من رجع لمنى بمنزلة من لم يخرج منها فله حكم المتأخر.(21)
ويناقش: بأن رجوعه إلى منى ليس على سبيل التعبد فوجوده كعدمه، فلم يلزمه المبيت ولا الرمي.
الترجيح:
يترجح القول الأول لقوة تعليله، مع ما فيه من التيسير على الناس عند شدة الزحام، حيث يمكنهم الخروج قبل الغروب، ثم العودة ليلاً أو صباحاً، للراحة وأخذ الأغراض ثم يطوفوا للوداع بعد ذلك، وهذا ظاهر فيمن نفر
ولم ينو الرجوع قبل تعجله، وإنما بدا له هذا بعد خروجه من منى، فإذا نوى العودة قبل تعجله بالنفر من منى، فإن الصورية هنا مع معارضة النية لعمله تشكل على الحكم المقرر.
المسألة الخامسة: حكم تقديم طواف الوداع على رمي الجمار
أكثر الفقهاء على أن طواف الوداع يكون بعد الفراغ من أعمال الحج ومن ذلك رمي الجمار(22)، لقول ابن عباس رضي الله عنه: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (23). وفي رواية
لمسلم: كان الناس ينصرفون في كل وجهٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرنّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت (24).
وجاء عن ابن عمر رضي الله عنه قوله: "فإن آخر النسك الطواف بالبيت".(25)
وذهب بعض الشافعية إلى جواز تقديمه على الرمي، وفي ذلك يقول النووي-رحمه الله-: "فلو طاف يوم النحر للإفاضة وطاف بعده للوداع ثم أتى منى ثم أراد النفر منها في وقت النفر إلى وطنه. واقتصر على طواف الوداع
السابق فهل يجزئه؟ قال صاحب البيان: اختلف أصحابنا المتأخرون فيه, فقال الشريف العثماني: يجزئه لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت, وهذا قد أرادها. ومنهم من قال: لا يجزئه, وهو ظاهر كلام الشافعي وظاهر
الحديث, لأن الشافعي قال: وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت فيودع وينصرف إلى أهله".هذا كلام صاحب البيان, وهذا الثاني هو الصحيح, وهو مقتضى كلام الأصحاب. والله أعلم." (26).
ويتبين من هذا النقل أن سبب الخلاف هو الاختلاف في معنى قوله" آخر عهده بالبيت"فقد حمله القائلون بجواز الطواف قبل الرمي على معنى مفارقة البيت، خلافاً لمن منع –وهم أكثر أهل العلم-فالمعنى عندهم آخر
الأنساك؛ لما تقدم.
فإن وقع الطواف قبل الفراغ من المناسك فالظاهر عدم صحته، ويلزمه إعادته.
والله أعلم وصلى الله وسلم على محمد.
---------------
المراد بالتعجل هنا: انصرا ف الحاج من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، وذلك بعد رميه جمار ذلك اليوم.