خيرية الأمة مرهونة بقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى:
[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ]
(آل عمران: ١١٠)
المفردات:
المعروف: أصل المعروف كل ما كان معروفا فعله جميلا مستحسنا غير مستقبح في أهل الإيمان بالله. قاله الطبري ثم قال: وإنما سميت طاعة الله معروفا لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله.([1])
المنكر: قال الطبري: أصل المنكر ما أنكره الله، ورأوه قبيحا فعله. ثم قال: ولذلك سميت معصية الله منكرا، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها ويستعظمون ركوبها. ([2])
التفسير
هذه الآية الكريمة وردت في سياق آيات تخاطب المؤمنين وتوجه الإرشاد إليهم بأن يتقوا الله حق التقوى،([3]) - وهو ميزان التفاضل ومعيار الخيرية لقوله تعالى في موضع آخر:[ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ ] (الحجرات: ١٣) - ثم مضت الآيات ترشدهم إلى ما يعينهم على بلوغ هذا المقام، واستمرت على هذا إلى أن جاءت هذه الآية [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فصارت في موقعها كالنتيجة وما
قبلها مقدمات، فإن الأمة طالما امتثلت منهاج الله الذي خطه لها، وحرصت على التمسك بحق تقواه، كانت جديرة بأن تكون خير أمة.
لكن هل الآية تطلق الحكم بالخيرية على سائر الأمة مجردا عن الزمان والمكان، أو أن المراد به المخاطبون منها وقت التنزيل؟
والواقع أن اختلافا وقع بين العلماء في جواب هذا السؤال.
القول الأول:
وقد ذهب أصحابه إلى أن هذه الخيرية مطلقة وليست مقيدة بزمان الصحابة رضي الله عنهم، وهم قد بنوا رأيهم على أن كان في قوله [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] هي التامة. ([4])
والمعنى: وجدتم خير أمة.....
وعلى ذلك يكون ما بعد هذا التقرير من صفات هي شرائط تحقق هذه الخيرية.
أي أنتم خير أمة أخرجت للناس ما كنتم [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ]
وهذا ما صرّح به مجاهد رحمه الله، فيما أخرجه ابن جرير عنه قال: كنتم خير الناس للناس على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر. وتؤمنوا بالله ([5])
ويؤيده ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه – في قوله:
[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]
قَالَ: " خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ" ([6])
أي بلا تقييد بزمان معين، فأمة الإسلام هي خير الناس للناس ما التزمت بأوصاف هذه الخيرية.
ويذكر ابن كثير أن القائلين بهذا هم: "ابن عباس، ومُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطاء، والربيع بن أنس، وعطية العَوْفيّ" ([7])
ومن العلماء ومن يتبنى هذا الرأي حتى على كون كان ناقصة دالة على حدوث الشيء في الزمان الماضي، وذلك لأنها مع دلالتها هذه لا تنفي أن يكون هذا المعنى حاصلا مستمرا أو على حد تعبير البيضاوي فإنها لا " تدل
على انقطاع قد طرأ وذلك كقوله تعالى: [إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ] ( النساء: ٢٣ )" ([8])
لأن "كان" في مثل هذا التعبير ونحوه لا تفيد انقطاع الوصف بلا خلاف في ذلك.
القول الثاني:
وأصحابه قد خصصوا الوصف بالخيرية بزمن الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف في ذلك أيضا:
فقيل: هي في المهاجرين خاصة وهذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: هم الذين خرجوا معه من مكة إلى المدينة.
وأخرجه أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو شاء الله لقال:"أنتم"، فكنا كلنا، ولكن قال: "كنتم" في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس،
يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ([9])
وقيل: هي في جميع الصحابة ([10])
والراجح هو القول الأول لما يلي:
1- ما أخرجه الترمذي وغيره عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: [كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]
قَالَ: "أنتمْ تَتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ"
قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ([11])
فالحديث يوجه الخطاب إلى جميع الأمة ولا يخص الصحابة رضي الله عنهم وحدهم.
وأخرج الإمام أحمد: بسنده عن محمد بن علي - وهو ابن الحنفية - أنه سمع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ". فقلنا:
يا رسول الله، ما هو؟ قال : " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ".
قال ابن كثير: تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسن ([12])
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ" هو عام في الأمة جميعها، ولكن بالنظر إلى صفات هذه الخيرية وعللها، حتى يتم المعنى، فهي ليست خيرية مجانية، بل خيرية مدفوعة الثمن - إن
جاز التعبير – وثمنها هنا هو القيام بشرائطها التي ذكرتها الآية الكريمة.
2- إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد عمم حكم الآية بعد ذكر أن لفظها يخص بعض الصحابة فقط وذلك فيما روه ابن جرير عنه ونقلناه سلفا حيث قال:
لو شاء الله لقال:"أنتم"، فكنا كلنا، ولكن قال:"كنتم" في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر "
فهو رضي الله عنه هنا يحكم بعموم الحكم بالخيرية، ليشمل كل من اقتدى بالصحابة في ذلك وصنع مثل صنيعهم
ويؤكد ما فهمناه من كلام عمر رضي الله عنه ما أخرجه أيضا ابن جرير بسنده عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها ورأى من الناس رعة سيئة فقرأ هذه [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ] الآية ثم قال: يا أيها الناس، من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها. ([13])
3- إن هذا الرأي هو الذي يتسق وسياق الآية، لأنها لم تذكر الحكم بالخيرية مجردا عن أوصافه فيفهم أنه منحة أو أنه خاص بأفراد معينين، لكنها ذكرته مقرونا بصفات ثلاث هي قوله: [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ]
فكانت هذه الصفات كالعلل لهذا الحكم.
يقول الفخر الرازي - وهو من علماء الأصول إضافة إلى كونه من علماء التفسير- : "والمقصود منه – أي من قوله تعالى: [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ] -
بيان علة تلك الخيرية ، كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم ، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ،
فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات ، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان ، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات." ([14])
4- إن هذا الرأي هو المختار عند أساطين المفسرين كابن جرير الطبري وابن كثير وابي السعود وغيرهم وقد قال ابن كثير في ذلك:
والصحيح أن هذه الآية عامةٌ في جميع الأمة، كل قَرْن بحسبه، وخير قرونهم الذين بُعثَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى: [وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ] البقرة: ١٤٣ أي: خيارا [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ] (البقرة:
١٤٣ )
وإنما حازت هذه الأمة قَصَبَ السَّبْق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أشرفُ خلق الله أكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يُعْطه نبيًّا قبله ولا رسولا من الرسل. فالعمل على
منهاجه وسبيله، يقوم القليلُ منه ما لا يقوم العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامه ([15]).
وقال أبو السعود: وخطابُ المشافهةِ وإن كان خاصاً بمن شاهد الوحيَ من المؤمنين لكن حُكمَه عامٌ للكل ([16])
* وبعد أن قررت الآية الكريمة خيرية هذه الأمة، فصلت بعد ذلك أسبابها فقالت:
[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ]
وهي جملة منصوبة على الحال، أي [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] حال كونكم [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ]
والتعبير بـ "صيغةُ المستقبلِ للدِلالة على الاستمرار" ([17])
إن الآية الكريمة هنا تخبر عن خلال ثلاث إذا اجتمعت في الأفراد حصد المجتمع نتائجها، وإذا اعتنى بها المجتمع فاق أقرانه وعلاها.
والآية الكريمة إذ تخبر عنها فإنها تحض على امتثالها واتخاذها منهاجا وسلوكا، ووسيلتها في الترغيب في امتثالها هو الإعلان عن شرف الغاية، وهو الوصف بخير أمة.
وهذه هي الصفات:
الأولى - الأمر بالمعروف أي بكل ما أمر الشرع به، فالشرع لا يأمر إلا بالمعروف، وفي امتثاله صلاح الفر