فكيف السبيل إلى إخماد ذكره؟!· وقد أشار الثعالبي إلى ما لشعره من القبول التام بين الخاص والعام. كما أشار الواحدي إلى شغف أهل عصره
بديوانه وعكوفهم على حفظه وروايته. ومن طريف ما يُروى في هذا الصدد أن رجلاً من أهل بغداد كان يكره المتنبي، وآلى على نفسه ألا يسكن بمدينة يُذكر فيها أو يُنشد شعره، فهاجر من بغداد، وكان كلما دخل مدينة
وسمع بها ذكره يرحل عنها؛ حتى وصل أقصى بلاد الترك فسألهم عن المتنبي فلم يعرفوه فأقام بينهم، فلما كان يوم الجمعة سمع الخطيب ينشد بعد أن ذكر أسماء الله الحسنى:
أساميًا لم تزده معرفة وإنما لذة ذكرناها
فعاد إلى بغداد·. والقصة على ما فيها من مبالغة تبيِّن شيئاً من الحق، وهو اشتهار ذكر المتنبي وشعره كأنه كان يعني نفسه بقوله:
وتركُك في الدنيا دويًا كأنما تداول سمعَ المرء أنمله العَشْر
الأغراض. طرق المتنبي مختلف أغراض الشعر وأبوابه من مدح وفخر وغزل ووصف للطبيعة والمعارك الحربية والحكم والأمثال والهجاء والطرَد وغيرها. فأجاد في شتى أبواب الشعر، وانفرد بفنون منها قل أن يزاحمه فيها
مزاحم.
المدح. بدأ المتنبي حياته الشعرية بالمدح وأحصى الدارسون في ديوانه 112 قصيدة مدح عدا القطع. وأهم صفة كان يسبغها على ممدوحيه الشجاعة مقرونة بالكرم مع ذكر أسلاف الممدوح. ثم هو يشبِّه ممدوحه بالغيث والمطر
والسحاب والأسد، وهو أسلوب تقليدي. ومما أنفرد به أو كاد تشبيه ممدوحيه بالأنبياء في الهيبة والجمال كقوله:
من يزره يزر سليمان في الملك جلالاً ويوسف في الجمال
ومن ميزاته أنه ينقطع لممدوحه فلا يمدح أحدًا معه إلا نادرًا، وأبرز ما في مدحه أنه يتغنى بنفسه ويقاسم الممدوح القصيدة ويجعل من نفسه ندًا له.
الرثاء. أغلب رثائه يعد من رثاء المناسبات وتقديم واجب العزاء، ويستثنى من ذلك رثاؤه جدته ورثاؤه فاتكًا، وبدرجة أقل رثاء خولة أخت سيف الدولة. ولذا نراه يميل إلى تحكيم العقل في رثائه ويحث على التعزية
والسلوان ويرسل الحكم في فلسفة الموت:
سُبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها مُنعنا بها من جيئة وذهوب
تملُّكها الآتي تملَّك سالب وفارقها الماضي فراق سليب
وكثيرًا ما ينتقل إلى الحديث عن فقدان الأحبة وفناء الدنيا وسطوة الموت.
وأحر مراثيه كانت في جدته التي كان يحبها حبًا جمًا. وقصة موتها تزيد في الفاجعة؛ يروى أنها أرسلت إليه لتودعه وداعها الأخير فانطلق من الشام إلى العراق وأرسل إليها لتقدم عليه في بغداد. ولما وصلها كتابه
اشتد بها السرور فحُمَّت وماتت، فقال محرِّمًا على نفسه السرور الذي قتلها وشارحًا سبب موتها:
أتاها كتابي بعد يأس وترحة فماتت سرورًا بي فمتُّ بها غمًا
حرام على قلبي السرور فإنني أعد الذي ماتت به بعدها سُمَّا
ومراثيه الأخرى على جودتها في بابها، يغلب طابع التعزية عليها كما أُخذَ عليه إلغاء الحواجز بينه وبين الأمير وأهل بيته كقوله في أم سيف الدولة:
بعيشك هل سلوت فإن قلبي وإن جانبت أرضك غير سال
وفي قصيدته في رثاء خولة أخت سيف الدولة طفرات ووثبات ما كان المجتمع في وقته ليقبلها كقوله:
أرى العراق طويل الليل مذ نعيت فكيف حال فتى الفتيان في حلب
الهجاء. هجاء المتنبي قليل لايتعدى مائتي بيت. ونَفَسُه الشعري قصير فيه، وأغلبه مقطوعات. وأطول هجائه قصيدة في كافور وأخرى في إسحاق بن كروس. وهجاؤه وجداني صادق التعبير عميق الألم، وهو لا يهجو إلا إذا
أوذي. ويعد هجاؤه كافورًا من أجمل شعره؛ حيث وصفه وصفًا كاريكاتيريًا ساخرًا، ولكنه ظلمه في كثير من هجائه له؛ فوصفه بقلة الوفاء والمطال والمكر وخلف المواعيد، وعيَّره بأصله الوضيع وبأنه كان عبدًا
لحجَّام، وبضخامة مِشْفره وغلظ يديه ورجليه، ونسي أن هذه الصفات لم يجلبها كافور لنفسه فلا يستحق أن يُذم بها، بل يستحق الإشادة لما وصل إليه وهو على هذه الصفة. وأشهر أهاجيه فيه:
عيد بأية حال عدت يا عيد ؟ بما مضى أم لأمر فيك تجديد ؟
وفيها:
من علَّم الأَسْوَد المخصيّ مكرمة أقومه البيض أم آباؤه الصِّيد
أم أذنه في يد النخاس دامية أم قدره وهو بالفلسين مردود
الوصف. المتنبي شاعر واصف طويل الباع إذا تفرغ لفنه. ولكن أنى له هذا التفرغ وهو أبدًا مشغول بما يريده الإنسان المثقل بالمطامح والهموم، المطارد من مكان إلى مكان. لم يسعد نفسه بالتمتع بمنظار الطبيعة وقد
مر بقسط صالح منها في لبنان ودمشق وغوطتها، وحلب وبساتينها، وشواطئ النيل، وهذا لا يعني أنه مقفر من الوصف، فله الوصف الجيد المنثور في القصائد من مثل قوله في الثلج:
لـَبـَسَ الثلوجُ بها عليَّ مسالكي فكأنها ببياضها سوداء
أو قوله في وصف لبنان:
وعقاب لبنان وكيف بقطعها وهو الشتاء وصيفهن شتاء
أو قوله في السحاب:
ألم تر أيها الملك المفدى عجائب ما لقيت من السحاب
تشكَّى الأرض غيبته إليه وترشف ماءه رشف الرضاب
وأشهر ما وقع له من وصف نكتفي منه بالإشارة إلى ثلاث قصائد هن من أروع ما قيل في الوصف لا في شعره فحسب بل في الشعر العربي، الأولى: قصيدته في بدر بن عمار ووصف فيها الأسد والثانية في وصف بحيرة طبرية،
والثالثة في وصف شعْب بوَّان.
كما أنه خص الخيل بطائفة من الأوصاف لأنها وسيلة مهمة من وسائل الحرب. كما وصف كلاب الصيد والظبي في الطرَد.
الغزل. لم يخص المتنبي هذا الفن بقصيد وإنما كان يأتي في مطالع قصائده مما دفع بعض النقاد إلى القول إنه غليظ القلب لايحب، وليس كذلك. ولعل طغيان النظرة التي حاول أن يشيعها في شعره من عنف في الرجولة
وانشغال بمعالي الأمور، والأحداث الجسام التي مرت به، هي التي أخفت بريق الغزل في شعره فبدا باهتًا متكلفًا:
وكان أطيب من سيفي معانقة أشباه رونقه الغيد الأماليد
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي شيئًا تتيمه غيد ولا جيد
ولكن هذا العنف يخفي وراءه نفسًا رقيقة تحس الجمال وتنفعل به، يقول:
أصخرة أنا ما لي لا تحركني هذي المدام ولاهذي الأغاريد
وقد تناول في مطالع قصائده مختلف فنون العشق والغزل: من سهاد وسقم، وطيف خيال، وتأثر بجمال المحبوبة، واشتهر عنه حبه للأعرابيات وازوراره عن الحضريات، لأنه تنقل في القبائل وعايش الأعرابيات فرأى الجمال
الطبيعي، لا أصباغ ولا ألوان:
ما أوجهُ الحضَرِ المستحسناتُ به كأوجه البدويات الرعابيب
حُسْنُ الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولاصبغ الحواجيب
الفخر. كان فخره نتيجة طبيعية لزهوه وتعاظمه وشعوره بامتيازه؛ وكان يقرن فخره بمدح الممدوح. ومن عجيب أمره أنه يفخر ويمدح في بيت واحد كقوله:
شاعر اللفظ خدنه شاعر المجـ ـد كلانا رب المعاني الدقاق
وكثيرًا ما كان يفخر بشخصه مُعليًا شأن ذاته المتفوقة:
أمِطْ عنك تشبيهي بما وكأنه فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
وقوله:
لتعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت وأني عتوت على من عتى
كما يفخر بشعره وكان يعلم قدره:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
أو:
وعندي لك الشرد السائرات لا يختصصن من الأرض دارا
ويرتبط بهذا احتقاره للحساد ومصاولته الأعداء من الشعراء:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ضعيف يقاويني قصير يطاول
وكان المتنبي يفتخر بالقوة وبتحمل المصائب، وهو يرفض الضيم، فارس لايهاب الموت، ولا يرعوي عن رمي نفسه في المهالك. وقد أدى به فخره إلى التهلكة، يحكى أنه عندما كاد ينجو بالهرب ناداه غلامه: ألست القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال له قتلتني قتلك الله، وعاد إلى القتال وقاتل حتى قُتل.
الحكمة. نثر المتنبي الحكم والأمثال في قصائده وهذه لاتتأتى إلا عن علم غزير وتجارب غنية، ولذلك تأتي حية معبرة يتناقلها الناس. وقلما نجد شاعرًا له هذا القدر من الحكم والأمثال المتداولة حتى عند أولئك
الذين تفرغوا لهذا الفن كأبي العتاهية. وساعده على ذلك أيضًا اطلاعه على فلسفة الهنود والفرس واليونان. وقد ذكر له الحاتمي في رسالته مائة بيت مقتبسة من أقوال أرسطو، وعدها وهنًا وسرقة، وليست كذلك، بل تدل
على الاطلاع والثقافة. ومن أمثلتها:
قال أرسطو: ¸إذا كانت الشهوة فوق القوة كان هلاك الجسم دون بلوغها·.
وقال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
وقال أرسطو: ¸علل الأفهام أشد من علل الأجسام· وقال المتنبي:
يهون علينا أن تُصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول
وقال أرسطو: ¸الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين: علة دينية أو علة سياسية لخوف الانتقام· وقال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
حكمة المتنبي مبثوثة في ثنايا قصائده؛ قد تأتي في بيت أو في نصف بيت ومن أمثلة ذلك:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوًا له ما من صداقته بُدُّ
وفي نصف بيت:
" أنا الغريق فما خوفي من البلل "
" وفي عُنق الحسناء يُستحسن العقد "
" مصائب قوم عند قوم فوائد "
" ومن قَصَد البحر استقل السواقيا "
" وخير