حكم التمثيل بالجثث
أجــاب عليه فضيلة المفتي/ يوسف القرضاوي
بسم الله،والحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله،وبعد:-
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التمثيل بالقتلى الذين يسقطون في الحرب، والتمثيل هو تشويه الجثث إمعانا في النكاية والتشفي.وعلى هذا صار الصحابة فرفضوا التمثيل ، وذموه.
واستثنى بعض الفقهاء حالة يجوز فيها التمثيل: وهي التمثيل بمن سبق أن مثل بجثث المسلمين قصاصا منه، وجزاء لما كسبت يداه من قبل.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:-
عرف الناس من قديم في الحروب تجاوزات شتى، منها: المُثْلة، ويراد بالمثلة: الانتقام من العدو، بعد موته، بتشويه جثته، وقطع بعض أجزاء من جسده، مثل الأذن والأنف والذكر وغير ذلك، وقد يخرج بعض أعضائه
الداخلية مثل القلب أو الكبد. كل هذا ليشفي غيظه من خصمه، مع أنه قد مات واستراح منه، ولكن الإنسان ـ لظلمه وجهله ـ لم يكفه موته، حتى ينكل به.
وقد رأينا المشركين في غزوة أحد، وقد قتلوا سبعين من المسلمين، قد مثلوا بعدد منهم، حتى قالوا: إن هند بنت عتبة ـ زوج أبي سفيان بن حرب ـ أخرجت كبد حمزة ـ أو أُخرِجت لها ـ وحاولت أن تلوكها انتقاما من قاتل
أبيها في بدر. وقد قال أبو سفيان بعد المعركة يُسمِع المسلمين: سترون مثلة قد وقعت، أما أنها لم تكن بأمري، ولم تسؤني.( رواه البخاري).
أما الإسلام، فقد نهى عن المثلة وحرمها، كما ثبت ذلك بأحاديث شتى.
ففي حديث بريدة في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لقواده: "اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا".
وروى مالك معنى ذلك عن عمر بن عبد العزيز: كتب إلى عامل من عماله (ولاته): أنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية يقول لهم: "اغزوا باسم الله ... ولا تغلوا ولا تمثلوا".
وروى أبو داود في كتاب الجهاد ـ باب النهي عن المثلة ـ عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعفُّ الناس قِتْلةً: أهلُ الإيمان". ومعنى هذا: أنهم يعفّون عن الانتقام من الموتى، والتمثيل
بأعضائهم وجثثهم، فهذا يتنافى مع عفة أهل الإيمان.
وروى أبو داود بسنده عن الهياج بن عمران: أن عمران أبَق له غلام، فحلف بالله عليه: لئن قدر عليه ليقطعنّ يده، فأرسلني لأسال له، فأتيت سمُرة بن جندب فسألته، فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على
الصدقة، وينهانا عن المُثْلة". رواه أبو داود، وصححه الألباني .
ومن ثم التزم المسلمون في جميع حروبهم: أن يراعوا حرمة الموتى، ولا يتعرضوا لجثثهم بأي تشويه، ولهذا منع الخلفاء الراشدون نقل رؤوس المحاربين من قادة أعدائهم إلى خلفائهم، ليتشفوا بالنظر إليها.
وعن عبد الله بن عامر أنه قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس البطريق، فأنكر ذلك، فقال: يا خليفة رسول الله، إنهم يفعلون ذلك بنا! قال: فاستنان بفارس والروم؟ لا يحمل إليّ رأس! فإنه يكفي الكتاب
والخبر. ا هـ.
فانظر إلى هذا الموقف الرائع من الخليفة الأول: إنكار حمل الرأس إليه، وقوله: آستنان بفارس والروم؟ ينكر عليهم أن يتخذوا من تقاليد فارس والروم أسوة لهم، فقد جعلهم الله رؤوسا لا ذيولا، فهم يُتبعون لا
يَتّبعون. ثم أصدر هذا الأمر الحاسم: "لا يحمل إليّ رأس"!
وأُتي أبو بكر برأس، فقال: بغيتم! أي إن هذا من فعل أهل البغي والظلم لا من فعل أهل الإيمان.
قال الإمام الزهري: لم يؤت إلى النبي صلى الله عليه وسلم برأس، وأٌتي أبو بكر برأس فقال: لا يؤتى بالجيف إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأول من أُتي برأس: ابن الزبير.
وعلى هذا استقر الفقه الإسلامي، ورجحه المحققون من علمائه.
يقول ابن عابدين في حاشيته: لو تمكن من كافر حال قيام الحرب: ليس له أن يمثل به.
واستثنى بعض الفقهاء: من كان مثَّل بالمسلمين، فيجوز أن يُمثَّل به قصاصا، استنادا لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالعُرَنيين. ولكن هذا لم يكن في الحرب، إنما هو حكم القضاء عليهم، بما قتلوا وسرقوا
وعاثوا في الأرض فسادا.
والله أعلم .