الحملة الفرنسية على الجزائر 1830م
أسباب الحملة الفرنسية على المدينة.
قبل البدء في الحديث عن أسباب الحملة الفرنسية على مدينة الجزائر يجب علينا أن نشير إلى أمر بالغ الأهمية، وهو أن الحملة ترعرعت في أذهان الملوك الفرنسي ابتدءا من "هنري الرابع" مرورا ب "لويس 14" و
"نابوليون"، لقد كانوا جميعا يرغبون في تأسيس إمبراطورية استعمارية مترامية الأطراف ، وهذا ما يفسر الإصرار الكبير ل"نابوليون" لاحتلال الجزائر لما أوفد جاسوسه "بوتان" عام 1808م بمهمة التجسس قصدا إعداد
تقرير لتحضير الترتيبات لاحتلال الجزائر، وتمكن هذا الأخير من تقديم دراسة راقية، حيث تكمن بدقة من معرفة وضع الداي وقوة الجيش العثماني .
أ- السبب المباشر:
جل المؤرخين الأوربيين يتخذون من حادثة المروحة سنة 1827م، السبب المباشر الرئيسي لاحتلال فرنسا للجزائر، وقبل الحديث عن هذه الواقعة، نحاول العودة قليلا إلى الوراء لمعرفة هذه الحادثة والتي أدت إلى
القطيعة التامة بين الطرفين.
يعود سبب القطيعة إلى مسألة القمح التي ظلت مفتوحة ومعلقة لعدة سنوات، وبدأت تظهر سوء نية فرنسا اتجاه الجزائر بعد أن ساعدتها في الأوقات الحرجة وقد سمحت التجارة الخارجية للمدينة خاصة تجارة القمح التي
كانت بيد التاجرين اليهود يين "بيكري" و "بوشناق" الذين استغلوا فرصة حصار انجلترا لفرنسا، وأرسلوا كميات كبيرة من القمح إلى فرنسا ، وباعوها بخمسة فرنكات للكيلة الواحدة التي لم تكلفهم سوى أربعة فرنكات،
وهكذا تحصلوا من نلك الشحنات على ثلاث ملايين وسبعمائة وخمسين ألف فرنك، هكذا أصبح ثمن القمح دينا بين الداي والحكومة الفرنسية ،أعلن "بكري" و "بوشناق" سنة 1800 م أن الديون بلغت 07 ملايين من الفرنكات، وقد
نجح اليهوديان في إقناع فرنسا على تسديد قسط من الديون، وتدخل "تاليران" وزير الخارجية الفرنسي فدفعت قسطا لليهوديين سنة 1819م قيمته 7 ملايين فرنك ، ولذلك قال "بوخوص" في "تاليران" ما يلي: «لو لم يكن
الأعرج، وهو يشير إلى تاليران ملك يدي ما كانت استطيع أن افعل شيء في باريس ». وهكذا هذه الصفقة الغادرة في خسارة الطرفين أموالا طائلة .
وقد وافق الداي حسين على هذه التسوية في أمل تسديد فرنسا لهذا الدين في اقرب وقت، لكن فرنسا تناست حقوق الداي، ففي ماي 1820م أعلن الداي ما يلي: «ان الحكومة الفرنسية قد نفذت جميع التزاماتها بعد انتفاضة
أكتوبر 1819م » . ولم يكن للداي أي شيء من بطء هذه الإجراءات، فقد اتضح للداي حسين أن هناك مؤامرة كان القنصل "ديفال" طرفا فيها، ورأسها في باريس هو "تاليران"، اخذ الداي يرسل إلى الحكومة الفرنسية عدة
رسائل يشكو فيها قائلا: « استطيع رد هذا المبلغ إلى فرنسا في مدة أربع وعشرين ساعة في حالة ما ذا كان أحد رعايا مدنيا لملك فرنسا» . واصل الداي إرسال البرقيات لكن دون جدوى وهذا ما دفع بالداي إلى فقدان
صبره لعدم تلقيه أجوبة من الحكومة الفرنسية.
وبمناسبة عيد الفطر من عام 1243ه الموافقة ل 1828م جاء السيد "ديفال" عشية يوم العيد ليؤدي زيارته كما جرت العادة فاخبره الداي عن الرسائل التي بعث بها إلى ملك فرنسا في شأن أداء الدين بقي في ذمته الدولة
الفرنسية في خصوص قضية بكري وبوشناق.
كان جواب القنصل في منتهى الوقاحة فقال له: « إن حكومتي لا تتنازل لإجابة رجل مثلكم» أراد القنصل من كلامه هذا استفزاز وتحقير الداي، وهذا ما أكده القنصل الأمريكي "وليام شالر" الذي كان من بين الحاضرين،
ويؤكد أن القنصل تعمد الوقاحة وافتزاز الداي لاستدراجه لإهانته وهذا ما مس كرامته الداي لدرجة انه لم يتمالك نفسه من الغضب وضربه بمروحيته "منشة الذباب" كانت بيده على وجهه، وهذا ما يؤكده السيد "بوتان" في
قوله :« ضرب الداي حسين السيد "ديفال" إلى وجهه بمروحية من ريش النعام» وهناك رواية أخرى تقول أن الضرب لم يقع أصلا، ولكن الداي قام بتهديد القنصل بالضرب .
قام القنصل بتضخيم الأمر وخبر ملكه بما جري، فجاءه أمر أن يغادر الجزائر فغادرها معه الفرنسيين المقيمين في مدينة الجزائر
هذا هو السبب الظاهر للعيان، والذي اتخذته فرنسا كذريعة لاحتلال الجزائر تحت غطاء استرجاع كرامتها، لكن نحن من واجبنا أن نبحث في الأسباب الحقيقية للاحتلال
ب- الأسباب الحقيقة للاحتلال:
الأسباب السياسية:
تتمثل في اعتبار حكومة الرياس في الجزائر تابعة للإمبراطورية العثمانية التي بدأت تناهز والدول الأوربية تتهيأ للاستيلاء على الأراضي التابعة لها، وخاصة أن الفرنسيين كانوا يعتقدون أنهم سيحصلون على غنيمة
تقدر ب 150 مليون فرنك توجد بخزينة الداي كما أن شارل العاشر ملك فرنسا كان يرغب في خلق تعاون وثيق مع روسيا في حوض البحر المتوسط حتى يتغلب على الهيمنة البريطانية في هذا البحر والتمركز في ميناء مدينة
الجزائر الذي كان يعتبر في نظر الملك الفرنسي تابعا لامبراطورية العثمانية المنهارة . ثم إن في عام 1827م وجد شارل العاشر
معارضة داخل مجلس النواب تسبب في مشاكل كبيرة له، وكادوا أن يطيحوا به، ولتحويل أنظار الفرنسيين إلى الخارج اتخذ "شارل العاشر" الجملة على مدينة الجزائر وسيلة لحل مشاكله وإسكات المعارضة ويكسب رضا الشعب
الفرنسي، وقد اعترف الملك شارل العاشر في قوله: « انه لشيء جميل أن نتقدم إلى برلمان ومفاتيح مدينة الجزائر بيدنا» .
الأسباب العسكرية:
أن انهزام الجيش الفرنسي في أوربا وفشله في احتلال مصر والانسحاب منها حتى ضربات لقنوات الانجليزية في سنة 1801م، قد دفع بنابوليون بونابرت أن يبعث بأحد ضباطه إلى الجزائر في الفترة الممتدة من 24 ماي إلى
17 جويلية 1808م لكي يضع له خطة عسكرية تسمح له بإقامة محميات فرنسية في شمال إفريقيا تمتد من المغرب الأقصى إلى مصر، وفي عام 1809م قام هذا الضابط العسكري "بوتان" بتسليم المخطط العسكري لاحتلال مدينة
الجزائر إلى نابوليون واقترح أن تحتل المدينة عن طريق البر، وعند انهزام نابوليون في معركة واترلو سنة 1815 وتحالف الدول الكبرى ضد الجيش الفرنسي في أوربا شعر ملك فرنسا انه من الأفضل أن يعتمد على سياسة
التوسع في شمال إفريقيا ويعمل على انشغال الجيش بمسائل حيوية تتمثل في احتلال مدينة الجزائر وتحقيق انتصار باهر هناك، وبالتالي يتخلص الملك من إمكانية قيام الجيش بانقلاب ضده في فرنسا .
الأسباب الاقتصادية:
كانت أوربا بسبب ازدهارها تشعر بالحالة إلى التوسع واستغلال الآخرين من وراء البحار، هذا التنافس عجل بعزم فرنسا على احتلال المدينة ومن تم التوسع على باقي الأقطار والاستئثار بخيراتها ، فقبل الحملة بقليل
سنة 1827م، كتب وزير الحربية الفرنسي "كليرمون تاليران" تقريرا عن الأوضاع العامة في الجزائر و خصص بالذات مدينة الجزائر حيث قال: "توجد مراسي عديدة على السواحل، يعتبر الاستيلاء عليها فائدة كبيرة...،
وتوجد في شواطئها ملاحات غنية، والى كل هذا توجد الكنوز المكدسة في
قصر الداي وهي تقدر بأكثر من خمسون مليون فرنك"
فالجوانب الاقتصادية كانت حافزا قويا في إقدام فرنسا على احتلال المدينة، فكانت تطمح في خيراتها والبحث عن أسواق جديدة لترويج منتجاتها
الأسباب الدينية:
في الحقيقة أن الصراع الذي كان قائما بين الدول المسيحية الأوربية والدول العثمانية الإسلامية قد انعكس على المسلمين بمدينة الجزائر لأن الأسطول الجزائري يعتبر في نظر الدول الأوربية امتداد للأسطول
العثماني، قد دفع بالدول المسيحية في أوربا أن تتعاون فيما بينها لضرب المسلمين بمدينة الجزائر واستانبول، وقد كان المسيحيون يتهمون الجزائريين بأنهم كانوا يقومون بالقرصنة في عرض البحر الأبيض المتوسط،
وسجن المسيحيين الذين يعملون في السفن إلى أن تدفع دولهم عنهم الفدية .
وتظهر النية المبنية من طرف فرنسا المسيحية لاحتلال مدينة الجزائر المسلمة في التقرير الذي رفعه السيد "كلير مون" وزير الحربية الفرنسية إلى مجلس الوزراء الفرنسيين المؤرخ في 14 أكتوبر 1827م والذي قال فيه:
"انه من الممكن ولو بمضي الوقت أن يكون لنا الشرف في أن نمدنهم وذك بجعلهم مسيحيين"، و نفس الاستنتاج نستخلصه من خطاب الملك الفرنسي شارل العاشر الذي أعلن أمام الجمعية الوطنية الفرنسية يوم 02 مارس 1830م
بان "التعويض الهائل الذي أريد الحصول عليه وأنا اثأر لشرف فرنسا، سيتحول بمعونة الله لفائدة المسيحية" ومن ثمة فإن الحملة العسكرية على مدينة الجزائر ونجاحها يعتبر انتصارا للمسيحية، وهي استمرار للحروب
الصليبية .
ومنها اختلفت الأسباب والذرائع يتبين لنا أن فرنسا كانت لها عزيمة قوية لاحتلال الجزائر، فأعدت العدة، وحسبت لكل شيء وعندما تهيأت الظروف كانت الحملة على المدينة لتتوسع لتشمل كل البلاد الجزائرية.
المبحث الثاني: مراحل الحملة على المدينة.
أ- الحصار البحري (1827م-1830م).
اتخذت فرنسا من حادثة المروحة ذريعة لاحتلال الجزائر، هكذا أصبحت الظروف مناسبة لتطوير الأزمة، ورغم أن الداي أكد لبعض المقيمين بالجزائر انه لم يقصد إهانة فرنسا، وانه مستعد للاعتذار عن الغضب، إلا أن
القنصل زاد الأوضاع تعقيدا فبمجرد وصوله إلى باريس جهزت فرنسا أساطيلها وبعثتها إلى المدينة تحت قيادة الأميرال "كوليت" يطالب الداي من وجوب تقديم اعتذار لقنصلها العام "ديفال" وكان الإنذار الذي قدمته
فرنسا للجزائر بواسطة قنصل "ساردينيا" "دات لي" الذي أصبح يرعى المصالح الفرنسية بالمنطقة وتضمن الإنذار ما يلي:
1- على كبار شخصيات