ولد أحمد زكى باشا الملقب بشيخ العروبة في الإسكندرية عام 1867 م ،ثم نال إجازة الحقوق عام 1887 م ، ليتجه بعدها إلى الترجمة وإحياء التراث العربي متخذا ذلك الخط
الذي يعتبر العمل الفكري وسيلة لتنوير الأذهان ، ولعل أبرز من مضى في هذا الاتجاه ، أحمد تيمور باشا (مصر ) والشيخ طاهر الجزائري (دمشق ) ومحمد كرد على (دمشق ) والأب انستاس الكرملى ( بغداد ) . وقد تفوق
احمد زكى باشا على جميع من ذكرنا في هذا المجال ، أي نشر التراث والتنقيب عنه في مكتبات الشرق والغرب . وإذا كان معاصره تيمور باشا يملك أربعة آلاف فدان من أجود الأراضي الزراعية في مصر مما كان يعينه على
دفع أى مبلغ يتطلبه الحصول على أى كتاب مهما ارتفع ثمنه ، فإن أحمد زكى باشا كان أقل ثروة ،غير أنه كان أبعد يدا و أكثر جرأة في السفر والترحال والبحث ، واسع الحيلة في الحصول على الكتب والمخطوطات وقد
ساعده على ذلك أيضا ، ظروف حياته الخاصة فلم ينشغل بولد ، هذا إلى جانب وظيفته في مجلس النظار التى مكنت له فرصة السفر ، وفوق ذلك كله اتصاله بدوائر الباحثين والمستشرقين في المجمع العلمي المصري والجمعية
الجغرافية .
وقد تأثر أحمد زكى باشا بحركات ثلاث سبقته :
الأولى : النهضة التى حمل لوائها رفاعة رافع الطهطاوى في مجال الترجمة ، ونقل الآثار الأدبية والفكرية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية.
الثانية :النهضة التى قادها السيد جمال الدين الأفغاني فى تحرير الفكر والإيمان بالشرق .
الثالثة : النهضة التى تصدر لها محمد عبده في تحرير الأسلوب العربي من التقليد ، وتوجيه الكتابة إلى المضمون والهدف دون الاعتماد على المقدمات والسجع والزخارف أو المحسنات اللفظية .
ويمكن القول بأن النهضة التى قادها وأوقد جذوتها جمال الدين الأفغاني ، قد كشفت عن ثلاثة ميادين للعمل :
1 –العمل لتحرير الوطن .
2 – العمل لتحرير الدين .
3 – العمل لبعث التراث العربي والتحقيق العلمي في مجال اللغة العربية والتاريخ .
وقد انحصر إنجاز أحمد زكى باشا في الميدان الأخير ، فكان فيه رائدا ومتميزا ومتفوقا وبارزا ، وهو إنجاز ضخم إذا ما قيس بقدرات الأفراد ، ويمكن توزيع هذا الإنجاز على ميادين ثلاثة أيضا :
1 –إحياء التراث العربي بالبحث عن المؤلفات والمخطوطات ونقلها مصورة .
2 –الآثار العربية والبحث عن القبور والمواقع والدعوة لتكريم أصحابها .
3 – تصحيح أسماء الأعلام والبلدان والوقائع والأحداث في مجال اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا .
ومثل هذا الإنجاز يتطلب حياة علمية عريضة وجهد شاق ، وقد توفر لشيخ العروبة هذه الحياة العريضة وأعطاه الله قدرة عظيمة لبذل هذا الجهد لأكثر من أربعين عاما ، فبدأت رحلة أحمد زكى باشا العلمية منذ اشتراكه
في مؤتمر المستشرقين عام 1892 م إلى وفاته عام 1934 م .
وقد لخص لنا الأستاذ أنور الجندي في كتابه "أحمد زكى باشا الملقب بشيخ العروبة " حياة أحمد زكى باشا العلمية في مراحل ثلاثة ذكرها على النحو التالي :
1 – المرحلة الأولى وهى مرحلة جمع التراث العربي من مكتبات الآستانة وأوربا والمشرق والمغرب ونقله بالفوتوغرافيا ومراجعته والتعليق عليه وطبعه ونشره .
2 – المرحلة الثانية وهى مراجعة هذا التراث ودراسته واستيعابه وتكوين خزانته الزكية والتعليق على ما بها من مؤلفات ، وإعداد أضابير وجذا ذات في مختلف فنون الأدب والتاريخ والجغرافيا الاتصال بالباحثين
ومراجعتهم .
3 – المرحلة الأخيرة من حياته وتبدأ بعد إحالته إلى المعاش سنة 1921 م حتى وفاته سنة 1934 م ،وهى أخصب فترات حياته ، حيث نشر عشرات المقالات والأبحاث وتوسع في صلاته بزعماء العالم العربي ، وتوسط في الخلاف
بين العرب واليهود في شأن حائط المبكى وقضية البراق .
وقد ترك أحمد زكى باشا العديد من الآثار الجليلة خلال هذه المراحل سواء في التحقيق أم التأليف أم الكتابة في الصحف .وتصدى للعديد من المعارك مع كبار مفكرى عصره وتلاميذه أيضا ك زكى مبارك ومحمد مسعود وغيرهم
ولعل أبرز أعماله التى يدين له العرب جميعا بالفضل ، اختصاره حروف الطباعة العربية من 950 حرفا إلى 132 حرفا ، ثم إدخاله علامات الترقيم إلى الكتابة العربية لأول مرة ، وما زلنا حتى كتابة هذا المقال نسير
على نهجها وكان هذا العمل الجليل عام 1912 م ، يقول أحمد زكى باشا مبررا قيامه بنقل الترقيم إلى العربية :
"دلت المشاهدة وعززها الاختبار على أن السامع والقارئ يكونان على الدوام في أشد الاحتياج إلى نبرات خاصة في الصوت أو رموز مرقومة في الكتابة يحصل بها تسهيل الفهم والإدراك " واصطلح على تسمية هذا العمل
بالترقيم ، لأن هذه المادة في المعاجم اللغوية تدل على العلامات والنقوش والإشارات التى توضع في الكتابة وفى تطريز المنسوجات .
وعلامات الترقيم التى نقلها أحمد زكى باشا بلفظها ورسمها :
الشولة ( الفاصلة ) ،
الشولة المنقوطة ؛
النقطة .
علامة الاستفهام ؟
علامة الانفعال !
النقطتان :
نقط الحذف والاختصار …
الشرطة __
التضبيب "000"
القوسان ( )
عاش أحمد زكى باشا سبعة وستين عاما ، قضى منها ما يربو على الأربعين عاما في خدمة اللغة والتراثين العربي والإسلامي ، بل والأمة العربية ، فكان بحق جديرا بلقب شيخ العروبة ، حيث كان منزله نزلا رحبا كريما ،
لكل من زار مصر من العرب والمستشرقين ورجال السياسة والفكر والأدب من كل أقطار العالم بشرقه وغربه . وقد ترك لنا آثارا جمة كما قلنا في التحقيق والتأليف ، بيد أنه آثر في أواخر أيامه أن ينقطع للكتابة فى
الصحف اليومية كالهلال والمقطم والأهرام .
وإذا كان أحمد زكى باشا قد ترك لنا الخزانة الزكية وبها أكثر من ثمانية عشر ألف كتاب منافسة في ذلك دار الكتب المصرية التى أنشأها على مبارك ، فإنه أراد أيضا إلى جانب الخزانة الزكية أن يترك أثرا يخلده ،
وهو بناء مسجد كبير ، فصرف همته في السنوات من 1921 إلى وفاته 1931 إلى بناء هذا المسجد ، فأنفق عليه كثيرا ونقل إليه طرائف الأحجار وروائع فن الزخرفة من كل مكان في العالم ،وعندما عاتبه البعض على هذا
العمل ،خاصة وأن القاهرة مليئة بالمساجد ،رد قائلا:"ترى ما أنا عليه من حال ،وقد حرمت من الأولاد ،فلم أعقب منهم أحدا ،وأعطاني الله فضلا من الرزق أحببت أن أبني منه لنفسي مقبرة وإلى جانبها هذا المسجد "ولم
يكتمل بناء المسجد ؛ فقد توفاه الله تعالى في 2يوليو 1934 أثر نزلة برد حادة ،رحم الله أحمد زكى باشا شيخ العروبة و فقيدها .