أهذا هو العبّاس (عليه السلام)
إن الحسين شعر بحزنٍ عميق بعمق البحار، كما شعر من قبل رسول الله بحزن مماثل، حينما واجه جسد عمّه حمزة بن عبد المطلب بعد معركة أحد وقد مثّل به الاعداء، ولولا أن الحسين كان يعرف أنّه راحل الى الموت في
اثر اخيه، لطارت روحه الزكية مع روح ابي الفضل إلى جنة الخلد، فقال عليه السلام وهو ينظر إلى تلك الجثّة: قتلة كقتلة النبيين وأولاد النبيين.
فعلى مرّ التاريخ كان أعداء الرسل ينكلّون بقتلاهم، ولا يلتزمون بأية حدودٍ في المواجهات العسكرية. كيف ويزيد وجنده كانوا يختزنون كل الاحقاد التي حملها من قبل جده ابو سفيان وجدته هند والتي دفعتهما الى
التمثيل بجسد حمزة -ع.
ترى كيف استطاعوا قتل العبّاس ولم يكن أحدٌ يجرأ من ذي قبل على مواجهته؟..
لقد كان العبّاس مثل أبيه علي بن أبي طالب، الذي يخشى الجميع من مواجهته، وذلك لأنه ما صارع أحداً إلا وصرعه، وما نازل أحداً إلا وقتله.
ففي معركة صفين عندما طلب الأمام من معاوية بأن يخرج إليه شخصياً ويقاتل معه، اقترح عمرو بن العاص أن يقبل التحدي ويخرج لمنازلة الإمام، لكنّ معاوية رفض ذلك قائلاً: لا.. وإنما نخرج إليه بجمعنا.
ويبدو أن العدوّ هنا في كربلاء أيضاً لم يكن يملك القدرة على قتل العبّاس، لولا أنهم خرجوا إليه بجمعهم، واستطاعوا أن يقطعوا يديه، ويصيبوا عينه، ويمطروه بالنبال اولاً، وهذا ما جرأهم على أن يضربوه بعمود
الحديد على رأسه، فخرّ صريعاً على الأرض.
العبّاس بمقدار ما كان شديد البأس على العتاة فقد كان رقيق القلب تجاه النساء والأطفال والمستضعفين جميعاً، فقد كان يتفجّر عاطفة انسانيّة كلما كان يرى ما بهن من الظمأ والعطش، وقد قتل في سبيل هؤلاء، وهو
الوحيد الذي قتل يوم عاشوراء لقضية محددة، هي محاولة إرواء عطش النساء والأطفال والرضع، ذلك أنه بعد أن قتل كل الأصحاب والأقرباء بمن فيهم أخوته من أبيه وأمه ولم يبق أحدٌ إلا هو والحسين، ازداد حصار العدوّ
عليهم شراسة، إذ أن شمر بن ذي الجوشن كان يستعجل وضع النهاية لتلك المعركة الدامية التي كان بنو أمية وجندهم يريدون فيها أخذ الثأر من رسول الله، وما فعل بأشياخهم ببدر وحنين وذلك تحت عمامة الإسلام
وخيمته.
تحديث للسؤال برقم 1
لقد كانت خلافة يزيد ثمرة المؤامرات الواسعة التي حاكها أبو سفيان للقضاء على الإسلام وعلى أهل بيت الرسول، بالحرب حيناً، وبالدسائس حيناً، وبالقتل والقتال حيناً آخر.
وكان إعصار القتل وغريزته قد بلغت الذروة عندما أقدموا على قتل تلك الذرية الطاهرة، بعد أن حاصروهم بالجوع والعطش والحراب، وكانت رائحة الدماء الزكية التي أريقت بغزارة في ذلك اليوم قد استحثت فيهم كل
الغرائز الحيوانية، وكما يفعل مجموعة من الذئاب بعد صيد الغزال الذي ما إن ينزف تحت أيديهم حتى يزداد حماسهم لتقطيع أوصاله، فإنهم كانوا في أوج حماسهم للقضاء على الحسين بأسرع وابشع ما يمكن، لكنّ وجود
العبّاس إلى جانبه كان يسلب منهم القدرة على تنفيذ ذلك، فكم من هجومٍ شنّوه على مخيم أبي عبد الله في تلك اللحظات الأخيرة، واستطاع هو وأخوه من ردّهم على أعقابهم.
لقد كانت حرب السيوف تسمح لمقاتل شجاعٍ واحد أن يقلّب ميزان القوة بمفرده، فيمنع الكثرة من أن تغلب القلّة، فما دام هنالك من يستطيع صد الرجال الذين يتقدمون في الهجوم فإنه قادر على صدّ من خلفهم، فلقد
عجزوا عن تنفيذ مئاربهم، كما كان يرغب في ذلك شمر بن ذي الجوشن، بل إن الحسين وأخاه العبّاس شنّا أكثر من هجوم عليهم، بعد أن بقيا وحيدين في الميدان.
ترى من كان يجرأ على مواجهة قلب عليّ- عليه السلام- الذي أودع في صدر الحسين والعبّاس؟
ومن كان يستطيع ان يتطاول على سيفين من سيوف رسول الله مودعين في زندي العبّاس والحسين؟
إلا أنه بمقدار ما كان العدوّ يستعجل النهاية بقتل الذرية الطاهرة من أجل حطام الدنيا، بنفس المقدار كانت نفس العبّاس تتوق لاستقبال الشهادة، حتى يفد على رب كريم غفور، ويعانق، وراء جدار الموت، كلاً من
رسول الله، وعلياً، والشهداء الذين سبقوه.
لقد كان العبّاس - في تلك اللحضات- على عجلة من أمره لدخول الجنة، كما كان أعداؤه على عجلة من أمرهم لكسب الجائزة عند عبيد الله بن زياد.
وبمقدار ما كان حبّ الدنيا قد أعمى بني أمية وجندهم، بمقدار ما كان حبّ الآخرة قد أجنّ أصحاب الحسين، وذلك ما كان يدفعهم إلى استسهال الموت في سبيل الله.
ألم يخرج عابس بن شبيب قبل ساعات من مقتل العبّاس وهو حاسر الرأس، من دون مغفرٍ ولا درع، لمواجهة ثلاثين ألف مقاتل من الذين يحملون كافة الأسلحة المتاحة في ذلك اليوم.
وعندما قيل له: ما انت صانع؟ امجنون انت؟!
اجاب لا تلوموني، فإن حبّ الحسين قد أجنني!؟
لقد كانت رغبة الشهادة تزداد لدى العبّاس، كلما كانت تقلّ لديه فرص الانتصار على العدوّ..
وها هو يقف الآن أمام الحسين ليقول: أبا عبد الله.
ثم يصمت.. كان يعرف أن ما يريده سيكون شديد الوقعة على قلب أخيه، ليس من أجله هو، بل من أجل النساء الثواكل اللاتي أودعن كل أملهن فيه، بعد أن صرعت سيوف البغي أصحاب الحسين جميعاً، ولم يبق احدٌ غيره.
أعاد العبّاس كلامه، وكان وجهه إلى الأرض خجلاً من اخيه، فقد كان يطلب منه الفراق!.
سكت قليلاً، أضاف بعدها: هل تأذن لي في القتال؟ .
وكان ذلك يعني هل تأذن لي بالموت!
كان كلّ الذين استشهدوا في يوم عاشوراء قد أخذوا الإذن منه، وكان -ع- يعطيهم ذلك بسهولة، بل ان البعض كان يكتفي بقوله: السلام عليك يا أبا عبد الله.
ويجيبه الحسين -ع- وعليك السلام، ثم يتلو قوله تعالى، {منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا}.
وقد قال أحدهم له أفلا نروح إلى الجنة؟
فقال الحسين: بلى، رُح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها، ولكن لا أحد من الأصحاب كان مثل العبّاس، فهو الحصن الأخير أمام طوفان الشرّ، والسّد المنيع الذي يعجز العدوّ عن تجاوزه، وغيابه كان يعني انفتاح
الباب على كل الاحتمالات.
ثم إن فراق الأحبّة -على كل حال- اصعب ما يكون بين قلبين، لم يفصل بينهما إلا الجسد.
فقال الحسين: أخي أنت صاحب لوائي، وأنت العلامة من عسكري، فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات، وتنبعث عمارتنا إلى الخراب.
تحديث للسؤال برقم 2
لكن العبّاس، من جهته، كان يريد أنّ يقتل ليس قبل الحسين فحسب، بل دونه أيضاً، أي في الدفاع عنه، وعن قضيته.
وكان ذلك هو قمة الإيثار..
فأن تعطي مالك للفقير مع احتياجك إليه إيثار..
وان تعطي وقتك لمساعدة محتاج، وأنت في عجلة من أمرك إيثار ايضاً.
وان تعطي طعامك وشرابك لغيرك، وأنت في أمسّ الحاجة إليهما إيثار كذلك.
وكل ذلك من صفات المؤمنين، يقول تعالى:
{والذين تبّوأوا الدار والإيمان من قبلهم، يحبّون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
ولقد كان المؤمنون الأوائل يتصفون بهذا النوع من الإيثار.. كما فعل أولئك النفر الذين سقطوا جرحى في إحدى المعارك، وكان بهم بعض الرمق، فجاء الساقي الى أحدهم بالماء فقال له: أخى اضمأ منّي.. فحوّله الى
الثاني، وهو بدوره حوّله الى الثالث، الذي وجده الساقي قد اسلم الروح، فعاد الى الثاني، وكان قد مات، فأسرع الى الأول - فوجده ميّتاً أيضاً.
ذلك من إيثار الحاجات، لكن الذي اتصف به العبّاس كان نوعاً اخر من الإيثار وهو إيثار النفس.
لقد كان ببساطة يريد ان يموت دون الحسين.
ومن جهة أخرى فقد زاد، مع رحيل اخوته واصحابه، شوقه الى لقاء الله، فقال للحسين: فداك روح أخيك، لقد ضاق صدري وسئمت من الحياة، وأريد أن آخذ الثأر من هؤلاء المنافقين
كان قد ضاق صدره من العيش تحت سماءٍ واحدة مع المنافقين، من أمثال عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن، أولئك الأجلاف الذين باعوا كل شرفهم لبطونهم التي ملئت من الحرام، وأيديهم التي تعودت على إراقة الدم الحرام،
وفروجهم التي تعبت من ارتكاب الذنب الحرام.
اعاد العبّاس طلبه، ثم أطرق بوجهه إلى الأرض..
كان يخشى أن لا يسمح له الحسين، وكان الحسين يخشى أن لا يستجيب للطلب الوحيد، الذي كان يطلبه منه في ذلك اليوم... مرّت لحظات من الصمت الثقيل، فقد شعر كلاهما بقرب الفراق، إلا أن الحسين كان يستشعر بالإضافة
الى ذلك بوحشة الوحدة..
فقال لأخيه: إن كان ولا بد، فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء.
كان العبّاس من ذي قبل هو الذي يتصدى للمفاوضات مع العدوّ في مختلف الشئون، وهاهو الحسين ينتدبه للمرة الأخيرة للدخول في المفاوضاتِ معهم من أجل الحصول على الماء بقوة المنطق.
أن الحسين لم يكن، بالطبع، طالب حرب.. بل كان طالب حق، وهو كان يريد الاصلاح في أمة جدّه.. كان يريد ان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. والذي أخرجه من مكة باتجاه الكوفة لم يكن تنافساً في سلطان، ولا
التماس شيء من الحطام، ولكن ليأمن المظلومون من عباد الله، ولتقام المعطلة من حدوده، وهو لذلك لم يترك مناسبة إلا وطرح بديلاً عن الحرب، وأتم حجته على العدوّ، لكي لا تكون لهم الحجة عليه في ما يفعل،
ويفعلون..
أما أولئك القساة فكانوا لا يريدون إلا الحرب، كانوا يريدون القتل اللئيم، بكلّ ما في الكلمة من دلالات، وبكل ما في نزعة الشرّ من أساليب، لكن إتمام الحجة من جانب الحسين -ع- وأصحابه كان ضرورياً للمرحلة
القادمة بعد هذه الحياة، في المحاكمة التي ستجرى يوم القيامة، بين يدي جبار السموات والأرض، من هنا فقد أرسل أخاه ليكلّم القوم في مسألة الماء..
وهكذا جاء العبّاس ووقف في وسط الميدان ونادى بأعلى صوته:
يا عمر بن سعد.. هذا الحسين، ابن بنت رسول الله يقول لكم أنكم قتلتم أصحابه وأخوته وبني عمه، وبقي فريداً مع أولاده وعياله وهم عطاشى، قد أحرق الظمأ قلوبهم، فاسقوهم شربة من الماء، لأن أولاده