الجهوية الموسعة : إصلاح الجهة أو أعادة البناء؟
بعد عشرية الملك وخطاب الجهوية، قراءة وتساؤلات
يكتسي موضوهع الجهوية أهمية خاصة في النسق السياسي والحزبي والإقتصادي والإجتماعي المغربي، وهو مطلب نادت به العديد من الفعاليات من قبل –خاصة الأمازيغية- قبل أن يتحول إلى خطاب رسمي للدولة، وإلى مشروع
مغربي تتفق عليه جميع الحساسيات الموجودة في التركيبة الإجتماعية والسياسية واللإقتصادية والثقافية الوطنية، فهناك من يرى "أن الجهوية لا تستقيم إلا بتبني خيار الفيدرالية"، وهناك من يعتبرها "مفتاحا سحريا
لمحاربة الهشاشة والإقصاء الإجتماعي" وهناك من يرى أن "الجهوية لا تكتمل إلا بالأحزاب السياسية الجهوية والتنظيم الإقتصادي الجهوي في إطار حكم ذاتي لمناطق ذات خصوصيات معينة كالريف وسوس والصحراء" ، وبين
هذا وذاك تنادي العديد من الأصوات بالتغييير السياسي والدستوري لتمكين الجهة من لعب أدوارها الكاملة، في حين أن التغيير المنشود والذي بدأ يراود الكثيرين منذ دخول البلاد "العهد الجديد" لا زال لم يتبلور
بعد نتيجة الكثير من الإختلالات... المقال التالي يعرج على البعض منها.
الإرث الحسني ومجالس المؤانسة في العهد الجديد
ورث الملك محمد السادس إرثا ثقيلا عن 39 سنة الحكم المتسلط، وعلى امتداد عشر سنوات من حكمه، بات واضحا أن التركة الثقيلة والسيئة الموروثة عن عهد الملك الراحل لم تشفع فيها الوصفات التي اعتمدت حتى الآن ،
فلا الإختيارات السياسية المنتهجة إلى يومنا تنبؤ عن القطيعة مع العهد السابق، فالملكية المغربية ظلت مطلقة وتعاظمت قدسيتها ، ومنهجية التلاعب بالقوى السياسية أدى إلى ضمورها وإعادة إنتاج الحزب الأغلبي
الذي بدون شك سيتزايد وزنه مع الإنتخابات التشريعية لسنة 2012 وسيدبر أمر الحكومات لا قدر الله إلى حدود سنة 2026،(1)، تبدوا طريقا سالكة، فهو حزب بحكم ولادته غير الطبيعية وبأطروحاته السياسية الشديدة
السذاجة من المؤكد أنه سيضيع على المغرب سنوات طوال من انعدام الرؤئ ونهج اختيارات استراتيجية واضحة المعالم وقادرة على إخراج المغرب من وهدة الأزمات المستعصية التي يحيا في ظلها ، كما أن إغراق البلاد
بمجالس المؤانسة التي لا سلطات لها والمسكونة بهواجس الاستقطاب والمراقبة، أمور كلها تتنافى مع التدبير الديموقراطي لشؤون البلاد والعباد، كما أن خيار الصدقات التي تتم في إطار ما يعرف بالتنمية البشرية
خيار يظل بمثابة مسكن للأوجاع لا يشفي من الأمراض.
إن المتتبع للشأن السياسي المغربي سيلاحظ ارتفاع نسبة القداسة للملكية المغربية الذي يحول دون تغيير في المسار السياسي للبلاد ، فهل يمكن لملكية ترفل في نعيم القداسة أن تقود التغيير؟ وما مضمون التغيير
الذي تقوده؟ أو يعقل أن تقود تغييرا ضد ذاتها؟ وهل كل تغيير يعني بالضرورة تقدما أو تطورا؟ وكيف تفسر عملية احتكارية لعبة التغيير؟ وأي دور لهذه اللعبة ولرواسي الحكم في إعاقة التغيير المنتج للقلب
التاريخي؟ وأي بنية تتأسس على فكرة الإله والدم والجسد والتحكم في الرقاب والزرع والخصب والجفاف على مذابح الطقوس وقرابين الرموز ليظل الملك "وحده لا شريك له" أن تنتج تغييرا وفق خطاطات علمية وعقلانية؟
(2)
وهل يمكن لـــ "الطابع المقدس" للملكية المغربية" أن يساعد على التغيير الحداثي ؟ ولماذا لا تتساوق بنيات ومفهوم الملكية المقدسة ومفهوم وشروط التغيير؟ وهل يمكن للملكية قيادة التغيير الذي يحقق القطيعة مع
ما يديمها؟ ثم ألا تعد احتكارية عملية التغير دليلا قطعيا على وهمية التغيير المهلل به إعلاميا وسياسيا وطنيا ودوليا؟
التطور الإجتماعي في إطار التغيير
أكد محمد السادس في خطابه الأخير بمناسبة تنصيب أعضاء اللجنة الإستشارية للجهوية يوم الأحد 03 يناير "أن الجهوية الموسعة المنشودة ليست مجرد إجراء إداري، بل توجها حاسما لتطوير وتحديث هياكل الدولة والنهوض
بالتنمية المندمجة" –مقتطف من الخطاب الملي-وبناءا عليه، كيف يمكن تصور تغيير "المشهد الإجتماعي بالمغرب" الذي يعيش احتقانات تهدد بانفجارات اجتماعية قوية إن لم يتم إصلاح ما يمكن إصلاحه؟ فالوضعية
الإجتماعية والإقتصادية للسواد الأعظم من المغاربة تعرف تدهورات خطيرة على كافة المستويات تنبؤ بانتفاضات شعبية إذا استمر الحال على ما هو عليه. "إن الهجرة بمختلف أنواعها مستمرة في تسجيل نسب مرتفعة أكثر
فأكثر، وهذا مؤشر على أن الأوضاع تزداد سوءا ، ولو ترك الناس أحرارا في اختيار الهجرة لذهبوا عشرات الآلاف للبحث عن شروط عيش أفضل، وستزداد الأمور تعقيا على المدى المتوسط بسبب انعدام المساواة الإجتماعية
والإقتصادية، ومنها مثلا الإستجابة لحاجيات أناس دون غيرهم ومنطقة دون أخرى، وهذا كفيل بإذكاء التوترات داخل المجتمع وهو ما ستستثمره بعض الجماعات المتطرفة مثل الإسلاميين ، ويعد بمواجهات عنيفة"-يقول
الصحافي الإسباني بيدرو كناليس- (3).
ومن جهة أخرى نلاحظ التدهور الخطير الذي تعرف بلادنا على كافة المستويات فقد صنف المغرب في الرتبة الــ 120 صنف النظام السياسي ضمن قائمة الأنظمة السلطوية حسب مؤشرات الديموقراطية. في حين سجل تقرير "فريدم
هاوس" حول حرية الصحافة المغرب في خانة البلدان التي تنعدم فيها حرية الصحافة، إذ تراجع إلى المرتبة 140 ، فالاستنطاقات والإعتقالات التي تعرض ويتغعرض لها الصحافيون تأكيدا لهذه الحقيقة، أما مؤشر الأمن
والإستقرارفقد هوى من المرتبة 48 إلى المرتبة 63 ، بينما احتل التعليم المغربي المرتبة الأخيرة على صعيد دول المغرب الكبير ، وتموقعت الجامعة المغربية خارج التصنيف العالمي سنة 2008 ، وكذلك في التقرير الذي
أعده معهد التعليم العالي بجامعة "جيوا تونغ" بشنغاي بالصين، في حين احتل المغرب في تقرير التنمية المرتبة 126 رغم إطلاق وقيادة عاهله ما ينعت بــ "التنمية البشرية" ولن نستغرب إذا ما استمرت بلاد المخزن في
إحراز المراتب المتوارية في ظل استمرار التسلط والقهر وتقدم ثورة الملك.
المشهد الحزبي والتغيير من أجل اللا تغيير
تعيش الساحة الحزبية المغربية في مناخ من التيه السياسي في ظل استمرارية العزوف الإنتخابي وانعدام الثقة بين الناخب والمنتخب من جهة، ومن جهة أخرى في ظل تدخل الجهات التي يفترض فيها أن تكون محايدة في
المشهد السياسي لصالح هذا الطرف أو ذاك –حسب العديد من قياديي الأحزاب السياسية- ومن جهة ثالثة في ظل إعادة إنتاج "الحزب الأغلبي" الذي يسير في اتجاه التأسيس لمبدأ "الحزب الواحد" ، وبالتالي إنتاج نفس
ثوابت الحكم في ظل استمرارية سلطوية مع تغييرات شكلية تلائم الظرفية الزمنية والسياسية الحالية، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين حزب "الأصالة والمعاصرة" وكل الأحزاب الإدارية التي سبقته، بل والفرق الجوهري بين
"الهمة" وكل رجال الدولة الأقوياء الذين سبقوه ( ابا احماد، أوفقير ، الدليمي، البصري، العنيكري..) فكل هؤلاء الرجال ظلوا خلف أسوار الحكم ، والوحيد الذي خرج منهم إلى الشارع السياسي هو "الهمة" و"هذا لم
يحدث قط في تاريخ المغرب، من يتحدث اليوم عن وزير الداخلية أو عن مدير المخابرات؟ الكل يتحدث عن فؤاد، وهذه حكمة لمن أفتى ولمن نفذ." (4)
وهنا يمكن الوصول إلى بيت القصيد من وجهة نظر كاتب هذه السطور، وهو أن الحسن الثاني ليس هو محمد السادس، فلا ظروف الملكين ولا أسلوبهما ولا طريقة تفكيرهما ولا السياق السياسي الذي مرا به يتشابه.
الحسن الثاني كان يواجه معارضة شرسة تريد الحكم أو على الأقل اقتسامه، فكان لا بد له من رجل من رجل خلف الأسوار، أما محمد السادس فإنه يواجه مجرد مطلب تطبيق المنهجية الديموقراطية في اختيار الوزير الأول،
‘إذن لا بد من رجل خارج الأسوار يضمن هاته ويدفع المعارضة الجديدة الملتحية إلى الزاوية، وبالتالي فالأمور تسير على ما يرام –في المشهد الحزبي على الأقل- و الحزب الأغلبي يمشي بثبات كالجرار تماما.
الجهوية الموسعة : إصلاج الجهة أم إعادة البناء؟
وجهت الكثير من الانتقادات للتقسيم الترابي الجهوي الحالي الذي تحكمت فيه مقاربات أمنية بالدرجة الأولى وسياسية بالدرجة الثانية، أنتجت جهات غير منسجمة من الناحية اللغوية والثقافية والحضارية والتاريخية
والجغرافية والإقتصادية ... كما هو الحال بالنسبة للريف الذي تم تقسيمه إلى جزئين، كل جزء تابع لجهة لا تربطه معها أية صلة، وهو ما ساهم في تعميق الفوارق بين المناطق المكونة لهذة الجهات التي أصبحت تشبه
بيتا آيلا للسقوط ، تصدعاته بحاجة إلى أكثر من الرأب والإصلاح، بل إلى الهدم وإعادة البناء،بناء سياسة جهوية جديدة تقلب الأدوار وتغير طبيعة العلاقات الإجتماعية القائمة على النمط الإرعائي، من خلال تغيير
طبيعة التعاقد البيعوي إلى تعاقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع يستلهم أسسه من الهوية التاريخية للمغرب العميق، يقول محمد السادس في خطابه الأخير داعيا اللجنة الإستشارية للجهوية إلى "إيجاد نموذج
مغربي-مغربي للجهوية، نابع من خصوصيات بلدنا، وفي صدارتها انفراد الملكية المغربية بكونها من أعرق الملكيات في العالم، فقد ظلت على مر العصور، ضامنة لوحدة الأمة، ومجسدة للتلاحم بكافة فئات الشعب، والوقوف
الميداني على أحواله في كل المناطق" هل هي رسالة ملكية تؤكد على استمرارية طبيعة التعاقد البيعوي الإرعائي بين الراعي والرعية؟ أو تلمح إلى تغيير طبيعة التعاقد البيعوي إلى تعاقد اجتماعي محدد لحقوق وواجبات
الحاكم والمحكوم على حد سواء؟ وبالتالي تحديد وتقنين سلطات