توماس أديسون لن يتحدث فقط عن العبقرية، بل سيتحدث أكثر عن التصميم والإرادة التي قدت من الصخر، عن حب التجريب واعتلاء قمة المصاعب للوصول إلى المستحيل، عن
استثمار الفرص لصنع المجد، في الواقع لن نتحدث عن أديسون بقدر ما سنتحدث عن الصدف
ولد توماس ألفا أديسون في فبراير 1847 بقرية ميلان في ولاية أوهايو بالولايات المتحدة الامريكية وقد ولد توماس صغير الجسد، ضخم الرأس، حتى أن طبيب القرية أخذ يردد أن الطفل قد يواجه المتاعب من جراء ذلك،
ولكن المتاعب التي واجهها توماس لم تكن لتخطر على بال الطبيب، فما كاد لسانه ينطق حتى أخذ يلقي الأسئلة على الجميع، وكانت الإجابة الوحيدة الموجودة لمعظم هذه الأسئلة غير المعقولة هي ( لا ندري). وكان توماس
يدور طوال اليوم في القرية ليكتشف شيئا جديدا، فأحب أحواض بناء السفن المنتشرة في قرية ميلان، وتعلم أسماء كل الأدوات وأغراض استعمالاتها، وظهر حب المغامرة والتجريب واضحا في تلك الفترة، فقد وقع ذات مرة في
القناة وهو يحاول أن يبني جسرا، وكاد يغرق في ذلك اليوم، وسقط في يوم أخر في كومة من الحبوب فكاد يدفن داخلها، وحاول ذات مرة تقصير حبل من الحبال، فأمسك بطرفه وطلب من أحد أصدقائه قطع الحبل باستخدام الفأس،
وكانت النتيجة فقد طرف إصبع من أصابعه.
وفي قبو منزل أديسون كان توماس يجري تجاربه ليلا بعدما احتل القبو وأخذ يشتري المواد الكيميائية، وكتاب مبسط عن الطبيعيات في يده، وظلت هذه العادة مرافقة له طيلة حياته، وهو أن يجرب أولا قبل التسليم بصحة
أي نظرية. وكانت أول تجارب توماس على صديقه وفأر تجاربه مايكل، حيث ملأ توماس جوف مايكل بالمواد الكيميائية ظنا منه أنها قد تجعله أخف وزنا من الهواء فيستطيع الطيران، وكانت النتيجة أن بدأ مايكل يعاني من
ألام شديدة في جوفه، حتى أنقذه الأب بأعجوبة من براثين توماس الذي أخذ يضيف المواد إلى جوف مايكل ليحصل على النتيجة المطلوبة, ونجا مايكل من الموت المحقق، وحظي توماس بالضرب المبرح، وأمر صارم من الوالد
بإخلاء القبو فورا، ولكن إلحاح توماس المتواصل جعل الأب يخفف العقوبة ويسمح له بمواصلة تجاربه بشرط عدم تكرار تجاربه هذه على أصدقائه، وغلق قوارير المواد الكيميائية بطريقة محكمة، وكتابة كلمة (سم) على
المواد الخطيرة لكي لا يعبث بها أحد، والغريب أن أديسون وحتى وفاته ظل يردد أنه لم يخطئ، ولكن كان على مايكل أن يرفرف بذارعيه أكثر حتى يستطيع الطيران!. وفي تلك الفترة فقد توماس حاسة السمع بشكل شبه كامل،
ويقال أن السبب في هذا إحدى تجاربه داخل قبو المنزل، ويقال أيضا أن توماس تسبب في حدوث شرارة أحرقت إحدى عربات القطار، وكان جزاء ذلك أن تلقى صفعة من يد ناظر المحطة أدت إلى صمم كامل في أذنه اليسرى و 80%
في اليمنى مع حرمانه من صعود عربات القطار.اختراعه الأول
حدث أن رأى توماس طفلا يسقط على قضبان القطار، فقفز لينقذه دون أن يعلم أنه ابن رئيس المحطة، وهكذا عينه الرجل في مكتب التلغراف وعلمه قواعد لغة مورس، وحصل أديسون على وظيفة مناوب ليلي، ولكنه كان يترك
العمل باستمرار ليزاول هوايته في القراءة، فأمره رئيسه بإرسال رسالة كل ساعة للدلالة على انتظامه في العمل، فطور توماس جهاز التلغراف لينتج أول اختراعاته وهو التلغراف الآلي، الذي لا يحتاج إلى شخص في الجهة
الأخرى لاستقباله ويترجم العلامات إلى كلمات بنفسه، ولكن رئيسه اكتشف الخدعة ذات يوم، وعلى الرغم من إعجابه بعقلية أديسون، إلا أنه فصله من العمل، فتحول أديسون إلى عامل تلغراف متجول. وكان اختراع الحاكي
1868، أو المسجل الصوتي لأصوات الناخبين في البرلمان كهربائيا، هو أول اختراع يحصل على براءة اختراعه ويسجل باسمه، وقد رفض البرلمان العمل بهذا الجهاز في تسجيل أصوات المقترعين، مما أصابه بشيء من اليأس،
وقرر منذ تلك اللحظة ألا يحاول ابتكار أي شيء لا يحتاجه الناس ويكون له قوة طلب قبل أن يصنعه. وفي 1869 اتجه أديسون في باخرة نحو مدينة نيويورك، وبينما هو يبحث عن عمل تصادف وجود عطل بآلة تسجيل الأسعار
بإحدى بورصات الذهب، وبادر أديسون بإصلاحها في وجود الدكتور ليز مخترع الآلة نفسه، ونجح أديسون بمهارة في تصليح العطل مما جعل الدكتور ليز يعرض على أديسون العمل مشرفا في مصنعه براتب 300 دولار شهريا، وفي
نفس السنة استطاع اختراع آلة للتخابر التلغرافي للمعاملات الفورية في بورصات الذهب، وباع هذا الاختراع بمبلغ أربعين ألف دولار، وبذلك استطاع التفرغ كاملا للاختراع وأنشأ معملا كبيرا في مينلو بارك بنيو
جيرسي، وكان يعمل فيه تقريبا طيلة ساعات اليوم، ولا ينام إلا لسويعات قليلة على سبيل السهو، ويكتفي بوجبات سريعة داخل المعمل نفسه، وكان عقله الجبار يجوب في ميادين متشعبة ويبحث في مسائل تتعلق بخمسه
وأربعين اختراعا في آن واحد. وقد جمع فريق كبير من المساعدين للعمل معه في المعمل ( طلائع أديسون)، وكان الهدف الرئيسي هو اختراع بسيط كل عشرة أيام، وواحد عظيم كل ستة أشهر، وقد اتخذ هذا المعمل الشعار
الساري حاليا في كل المشروعات العلمية ( رأيان أفضل من رأي واحد). يقول أديسون عن أسلوب عمله(لدي الكثير من الأعمال، والحياة قصيرة، يجب أن أعجل بالانتهاء منها). ولكن توماس كان يعاني من مشكلات ما بخصوص
استيعابه للرياضيات، لذلك صرخ قائلا أمام إحدى المسائل الرياضية التي أضنت تفكيره ذات مرة (إنني أستطيع دائما ان استخدم المختصين في الرياضيات، ولكن هؤلاء لا يستطيعون استخدامي أبدا!.)
في سنة 1877 أعطى أديسون لأحد مساعديه ويدعى كروسي تصميما مرسوما وطلب منه أن يسهر عليه الليل ليصنع آلة لتسجيل الأصوات، وبالطبع سخر كورسي من أديسون فكان الرهان على صندوق ضخم من السيجار، وبعد ثلاثين ساعة
من العمل المتواصل، انتهى كروسي ووضع الآلة أمام أديسون (وهي اسطوانة مغطاة بالورق علي قرص دوار وإبرة تسجيل معلقة علي ذراع تحفر سلسله من النقاط والشرط بشكل لولبي )، وابتسم أديسون بكل هدوء وأدار اليد ثم
أخذ يغني بصوت عال أغنية للأطفال، حتى أن العمال انسجموا وغنوا معه بسخرية، وبعدما انتهى الغناء أوقف أديسون الآلة وأدراها مرة أخرى لتخرج أصوات الغناء من الآلة، فصاح الجميع: يا الله، الآلة تتكلم. وقد قام
هذا الاختراع على تقنية متميزة بحيث يؤدي أي انبعاث صوتي إلى اهتزاز الإبرة مما يخلف أثرا على الأسطوانية الورقية الدوارة، وعند عكس هذه العملية تسمع الصوت الأصلي. وكسب أديسون أكثر بكثير من مجرد صندوق من
السيجار الفخم، فقد انتشر الخبر في كل أنحاء الولايات المتحدة حتى أطلق عليه لقب الساحر، واستدعاه الرئيس الأمريكي ( Rutherford B.Hayes) لرؤية الأعجوبة، وما أن سمع روزرفورد وضيوفه الآلة المعجزة وهي تسجل
أصواتهم وتعيدها مرة أخرى حتى انتفض الجميع غير مصدق، وطار الرئيس الأمريكي ليوقظ زوجته في منتصف الليل ليريها الآلة المعجزة. وبعدها تم تصنيع الفونوجراف على نطاق واسع وطرحه في الأسواق، وكان شعار توماس في
تلك المرحلة ( أريد أن أرى فونوجراف في كل بيت).