في سبتمبر من العام 1955 أقدمت مصر على خطوة جريئة أثارت غضب واستياء الحكومة البريطانية. إذ أُعلن في يوم 27 من ذلك الشهر أن مصر أبرمت صفقة سلاح مع إحدى دول الستار الحديدي
وهي تشيكوسلوفاكيا. في واقع الأمر أن السلاح كان سوفيتياً قد إتخذت تشيكوسلوفاكيا معبراً له.
تحدث السفير البريطاني في القاهرة تريفليان في 6 أكتوبر 1955 مع عبدالناصر عن تلك الصفقة وأثرها على علاقات مصر مع الغرب، ودار بينهما نقاش طويل حول تسليح إسرائيل. وفي معرض ذلك قال عبدالناصر إن كل ما كان
يريده هو الأمن، وأنه حتى الهجوم الإسرائيلي على غزة في 28 فبراير 1955 سخر كل الموارد للتنمية. وأضاف أنه لم يكن يريد إنفاق المال على السلاح ولكن الهجوم على غزة أرغمه على ذلك.
البرقية رقم 388
قرر مجلس الوزراء البريطاني أن يكون الرد على ما أقدم عليه عبدالناصر في السودان. ففي 6 أكتوبر 1955 بعث هارولد ماكميلان وزير الخارجية إلي الحاكم العام نوكس هيلم برقية تحمل الرقم .388 ولأهمية هذه البرقية
نورد فيما يلي ترجمة كاملة لها:
«نظراً لقيام مصر بإبرام صفقة سلاح مع تشيكوسلوفاكيا، فإننا لم نعد بحاجة للالتزام بمراعاة شعور المصريين بدقة كما كنا نفعل من قبل. وهناك حجة قوية تدعم تسريع عملية حصول السودانيين على الاستقلال. إن الخطة
الأصلية بموجب الاتفاقية الإنجليزية - المصرية تتطلب إجراء انتخابات لجمعية تأسيسية قبل تقرير المصير. وأما الخطة التالية التي دعا لها البرلمان السوداني فتقضي بإجراء استفتاء. ولكن الإجراءين يتطلبان
إشرافاً دولياً. ولا يبدو أن هناك سبباً يحول دون السماح للسودانيين باتخاذ القرار بشأن الاستقلال دون المرور بتلك العمليات الصعبة والتي ربما تكون خطيرة. وقد أثار اهتمامي صعوبة وضعك في فترة تقرير المصير
حيث أنك تتحمل مسؤوليات بدون أن تكون لك سلطة.
2- ومع مراعاة وجهة نظرك، فإنني أقترح أن تقوم بإبلاغ رئيس الوزراء السوداني في تاريخ مبكر بأن حكومة صاحبة الجلالة على استعداد للاعتراف باستقلال السودان على الفور إذا كانت تلك هي رغبة السودانيين، وأنه
سيكون هناك إعلان بهذا الخصوص خلال وقت قصير. ونقترح أن يكون الإشعار العلني في غضون أربع وعشرين ساعة بعد إبلاغ الأزهري. وبالتالي ستكون أمامه فرصة للاحتجاج إذا كان له اعتراض حقيقي بينما يتم تجنب خطر
التسريب للمصريين. ولكن هذا الإجراء لن (وأُكرر لن) يقدم بوصفه رداً للصاع بالصاع tit for tat في مواجهة عبدالناصر بل كأمر تراه حكومة صاحبة الجلالة صائباً ومتفقاً مع مصالح السودانيين وسيبلغ عبدالناصر
بالأمر قبل نشره مباشرة.
3- يسرني أن أتلقى ملاحظاتك بصورة عاجلة مع ما تنصح به بشأن الوسائل والتوقيت. ومن حيث المبدأ فإننا نود اتخاذ هذا الإجراء بأسرع ما يمكن إلا إذا كنت تعتقد أنه من الضروري الانتظار لحين مغادرة القسم
الرئيسي من القوات المصرية والبريطانية».
رحب نوكس هيلم بحرارة باقتراح ماكميلان. ولكن السفير البريطاني في القاهرة تريفليان نبه إلى أنه كيفما قُدم اقتراح ماكميلان فإنه لن ينظر إليه في مصر سوى أنه إلغاء للاتفاقية الإنجليزية - المصرية رداً على
صفقة الأسلحة التشيكية. وقال إنه إذا تم تبني اقتراح ماكميلان فينبغي أن تكون الحكومة البريطانية مستعدة لإجراء انتقامي من مصر ضد اتفاقية قاعدة قناة الســـويس بالإلغاء أو التعويق الإداري.
أعاد ماكميلان النظر في أسلوب تنفيذ هدفه فقد تأثر بوجهة نظر السفير تريفليان الذي أشار إلى أنه سبق أن اتفق مع عبدالناصر على وقف الممارسات المصرية التي كانت ترمي إلى إجبار بريطانيا بالتصريحات الصحفية
لاتخاذ مواقف لا ترغب فيها. وقد التزم ناصر بذلك، وسيكون من الخطأ العودة إلى تلك الممارسات. ويبدو أن الغرض من ذلك الاتفاق كان التنسيق في الشأن السوداني وتجنب الدولتين احراج بعضهما البعض بالتصريحات
الصحفية كما كان يفعل صلاح سالم إبان فترة توليه ملف السودان. لذلك أبلغ ماكميلان الحاكم العام بأن أفضل طريقة لتنفيذ هدف الحكومة البريطانية مع الالتزام بأسلوب العمل الذي اتُفق عليه مع عبدالناصر هو أن
تأتي المبادرة من حكومة السودان. ووجه ماكميلان الحاكم العام بأن يطرح على أزهري الحجج المؤيدة لقيام البرلمان السوداني نفسه باختيار مستقبل السودان ثم يحضه على طلب موافقة دولتي الحكم الثنائي على ذلك. كما
وجه ماكميلان هيلم بأن يخبر أزهري سراً بأنه إذا قدم الطلب، فإن الحكومة البريطانية ستكون مستعدة لحث عبدالناصر على الموافقة. فإذا وافق عبدالناصر فسيتحقق هدف الحكومة البريطانية. وأما إذا امتنع عبدالناصر
فإنه سيكون بإمكان الحكومة البريطانية أن تعلن وجهة نظرها. وأضاف ماكميلان أنه إذا رفض أزهري تقديم الطلب، فسيكون مضطراً لإعادة النظر في كل المسألة وسيستنتج من ذلك أنه لا يمكن التعويل على أزهري لتأييد
إجراء من جانب واحد قد تتخذه الحكومة البريطانية لتحقيق استقلال السودان بطريق مختصر.
يبدو أن الخطة البريطانية لاختصار الطريق إلى الاستقلال قد قوبلت في بادئ الأمر بالرضا من الحكومة ومعظم أحزاب المعارضة. إذ أبلغ الحاكم العام وزارة الخارجية البريطانية في 13 أكتوبر 1955 بأن المحادثات
التي أُجريت مع الحكومة والمعارضة قد أظهرت قبولاً عاماً لاختصار عملية تقرير المصير وذلك بتقديم اقتراح في البرلمان القائم لتخويله القيام بمهام الجمعية التأسيسية المنصوص عليها في المادة 12 من الإتفاقية
الإنجليزية - المصرية، أو كبديل لذلك أن يُطلب من دولتي الحكم الثنائي الاعتراف بالسودان كدولة مستقلة وتخويل البرلمان القائم وضع الدستور الجديد. وكان وليام لوس قد أجرى محادثات مع إسماعيل الأزهري ويحيى
الفضلي وكذلك مع الصديق المهدي رئيس حزب الأمة والقيادي بالحزب محمد الخليفة شريف. ولمس لوس من تلك المحادثات رغبتهم في اختصار إجراءات تقرير المصير وتجنب إجراء أي استفتاء أو انتخابات. كما لمس اتفاقهم على
أن إجراء انتخابات أو استفتاء في الجنوب أو على الأقل في المديرية الاستوائية لن يكون عملياً في المستقبل القريب. ولكن سيرد من بعد أن هذا الوفاق العام لم يصمد طويلاً.
عبدالناصر يستوضح هيلم
نشرت صحيفة «الأمة» في 13 أكتوبر 1955 تصريحاً نسبته إلى وليام لوس وبثته وكالة الأنباء العربية. جاء في التصريح أن «سياسة بريطانيا هي احترام رغبة السودانيين والحرص على صداقتهم ومراعاة شعورهم بكل ما
يمكن، وهي لن تقف بعد الآن عقبة في سبيل أي تطور أوهدف أو اتجاه وطني يريدون». وأضاف لوس أنه «إذا ما قرر البرلمان السوداني أن يعلن الاستقلال من داخله، فإن بريطانيا ستعترف بقراره». وختم لوس التصريح
بقوله: «إنه في الإمكان أن تأتي هذه السياسة مكتوبة ورسمية، إذا ما طلب السودانيون ذلك».
أثار التصريح المنسوب للوس عاصفة من النقد في مصر، واعتبر نقضاً للاتفاقية وأتُهمت بريطانيا بأنها تسعى لتحقيق مصلحة خاصة بها في السودان. وبعث عبدالناصر خطاباً بتوقيعه شخصياً إلى الحاكم العام نوكس هيلم
طلب فيه توضيحاً لتصريح لوس. جاء في الخطاب: «إن مستر لوس الذي أدلى بهذا التصريح هو مستشاركم السياسي الذي عُين وفقاً للمادة 103 من قانون الحكم الذاتي للسودان لمعاونتكم في القيام بمسؤولياتكم في حكومة
السودان. فإذا كان قد أدلى بهذا التصريح بصفته مستشاركم السياسي، فحينئذ لا شك أنه قد أدلى بهذا التصريح بموجب تعليماتكم التي لم تخاطبوا بها الحكومة المصرية أو تطلبوا رأيها. إن مثل هذا التصريح ينبغي أن
يكون توضيحاً لآراء الحكومتين اللتين تعمل أنت كممثل لهما، خاصة وأن التصريح يتعارض مع أحكام الاتفاقية القائمة بين البلدين والتي يجب أن تحترم. ولكن إذا كان مستر لوس قد أدلى بهذا التصريح بصفته ناطقاً
باسم الحكومة البريطانية - بالرغم من أن ذلك يتعارض مع المادة 103 من قانون الحكم الذاتي، فإن الحكومة المصرية تود أن تعرف ما إذا كان هذا الرأي يمثل وجهة النظر الرسمية للحكومة البريطانية، لأنه يتعارض مع
أحكام الاتفاقية الإنجليزية - المصرية التي التزمت الحكومتان باحترامها».
نفى لوس لوكالة الأنباء العربية أنه قد أدلى لصحيفة «الأمة» بالتصريح الذي نُسب إليه. ونفى ذلك الحاكم العام في الرد الذي بعث به إلى جمال عبدالناصر. ولكن بالرغم من هذا النفي إلا أن تصريح لوس يتفق تماماً
مع الخطة البريطانية لاختصار إجراءات تقرير المصير. فلربما يكون ما نشرته صحيفة «الأمة» قد سربه لها أحد قادة حزب الأمة الذين التقاهم لوس.
الحاكم العام يحث على العجلة
كرر أزهري للحاكم العام في 17 أكتوبر 1955 القول بأن الاتجاه في أوساط السودانيين هو السعي للاستقلال بدون اللجوء إلى استفتاء أو جمعية تأسيسية، وأن يعهد بمهمة وضع الدستور الجديد وقانون الانتخابات إلى
لجان منبثقة من البرلمان وتُمثل فيها كل الأحزاب بينما تبقى الحكومة القائمة مسؤولة عن أعمال الإدارة الروتينية. وتبين للحاكم العام من خلال الحديث أن أزهري كان يعتقد أنه ليس هناك عجلة لإصدار أي قرارات
جديدة في البرلمان بل إقترح أزهري مارس 1956 كتاريخ كافٍ لذلك بينما يستمر في غضون ذلك العمل التحضيري للدستور الجديد.
قال الحاكم العام إن حديث أزهري كشف له عن درجة من الارتباك في التفكير، لذلك رأى أنه من الضروري أن يرسخ في ذهن الأزهري بشكل مؤثر حقائق الوضع. فذكره بأن البرلمان السوداني قد طلب في أغسطس 1955 من دولتي
الحكم الثنائي الموافقة على إجراء استفتاء ورشح الدول التي ستمثل في اللج