اعتبر العشق على أنه شكل مفرط من أشكال المحبة. وفي الوقت الذي ينظر فيه إلى الحب على أنه أسمى عاطفة يتحلى بها الإنسان
، فقد اعتبر العشق أنه عبارة عن حالة مرضية تحدث نتيجة للمغالاة الشديدة في الحب، مما ينعكس ذلك بآثار سلبية على شخصية العاشق تتظاهر باضطرابات جسمية،
فضلا على الاضطرابات السلوكية والتي كثيرا ما تدفع الشخص المصاب لأن يرتكب تصرفات غير عقلانية.
لقد عالج الأدباء العرب ومنهم الشعراء هذا الموضوع في شعرهم الغزلي بشكل خاص، واعتبره الكثير منهم بأنه المرض الذي لا يرجى شفاؤه. من ذلك مثلا قول ابن الفارض:
وضع الآســي(1)بصدري كفه قال مالــي حيلة في ذا الهوي
ومن ذلك أيضا ما تذكره كتب الأدب عن محاورة جرت بين مصاب بالعشق ينشد علاجا لعشقه وأحد الشعراء يسديه النصيحة:
أيا معشـر العشـاق بالله خبروا إذا حل عشـق بالفتى ما يصنع؟
يداري هــواه ثم يكتم ســره ويخشـع في كل الأمور ويخضع
وكيف يداري والهوى قاتـل الفتى وفـي كل يـوم قلبـه يتقطع
فإن لم يجد صبرا لكتمان ســره فليس له ســوى الموت ينفع
ســـمعنا أطـعنا ثم متنا فبلغوا سـلامي لمن كان للوصل يمنع
في حين أن الأطباء المسلمين القدامى، وعلى نحو مخالف للشعراء، قد نظروا إلى هذا المرض على أنه حالة مرضية كغيره من الأمراض العصبية أو النفسية
كالصرع والصداع والسوداء( له أسبابه المرضية وعلاماته وأعراضه وعلاجه. فأفاضوا في شرحه موضحين أن لهذا المرض علاجات مختلفة تطبق حسب حالة المريض وحسب درجة ثقافته
بالإضافة لطبيعة الظروف المحيطة به.
ولعل أول من تكلم في مرض العشق من الأطباء هو الطبيب اليوناني أبقراط Hypocrites والملقب بأبي الطب
. حيث قال واصفا إياه: "العشق طمع يتولد في القلب وتجتمع فيه مواد من الحس. فكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدة القلق وكثرة السهر.
وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء، ومن طغيان السوداء وفساد الفكر يكون الفدامة ونقصان العقل، ورجاء ما لم يكن وتمني ما لم يتم حتى يؤدي ذلك إلى الجنون.
فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه، وربما مات غما. وربما وصل إلى معشوقه فيموت فرحا أو أسفا. وأنت ترى العاشق إذا سمع بذكر من يحب كيف يهرب دمه ويستحيل لونه.
وزوال ذلك عمن هذه حالته بلطف من رب العالمين، لا بتدبير الآدميين".
وقد وصف جالينوس Galen هذا المرض بقوله: "العشق استحسان ينضاف إليه طمع، والعشق من قِبَل النفس، وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد.
والعاشق يمتنع عن الطعام والشراب لاشتغال الكبد، وعن النوم لاشتغال الدماغ بالتخيل وذكر المعشوق والتفكير فيه، فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت فيه.
فمتى لم تشتغل فيه وقت الفراق لم يكن عاشقا".
Cant See Links
أسباب مرض العشق:
يقول ابن سينا في ذكر أسباب هذا المرض: "هذا مرض وسواسي شبيه بالمالينخوليا(6) Melancholy ، يكون الإنسان قد جلبه إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمايل التي له
سواء أعانته على ذلك شهوته أم لم تعنه".
وقد أضاف بعضهم إلى ذلك بأن هذا المرض يعتري العزاب والبطالين من أهل الرعاع. ويتحدث ابن هبل البغدادي عن آلية حدوث هذا المرض
فيقول: "العشق مرض يعرض من إدامة الفكر في استحسان بعض الصور الحاصلة في الخيال وإدامة النظر إليها وتحريك النفس شوقا إلى استحضار ما هي مثاله،
ويساعد على ذلك الحركات الشهوانية فيعرض من ذلك شيء من الجفاف واليبس المؤدي إلى المالينخوليا". من حديث البغدادي يمكن لنا أن نفسر لماذا أتى مرض العشق
بعد مرض المالينخوليا في المؤلفات الطبية العربية القديمة.
"والملينخوليا هي:قيل : أن الدم الذي في عروق الدماغ تغيّر إلى السوداوية، أو أن الدم في سائر البدن كذلك.
فالدم الذي في عروق الدماغ يميل إلى السوداوية و يتولّد من حرارة كثيرة تحرق ذلك الدم وتحيله إلى سوداء، أو أن الدم ينصب للدماغ من جميع أنحاء البدن."
الأعراض والعلامات:
أجمل سبط المارديني في مخطوطته الطبية المسماة الرسالة الشهابية في الصناعة الطبية أعراض وعلامات مرض العشق
قائلا: "وعلامته غؤور العينين وجفافهما إلا عند البكاء، وغلظ الجفن من كثرة السهر والأبخرة المتصاعدة إليه.
ويعرف معشوقه بوضع اليد على نبضه وذكر أسماء وصفات، فإذا اختلف النبض عرف أنه هو ".
لقد أجمع أكثر الأطباء العرب المسلمون الذين تحدثوا عن مرض العشق أن اضطراب النبض هو من العلامات الهامة لتشخيص مرض العشق بل وحتى معرفة هوية المعشوق
. ومرد ذلك يعود إلى حكاية تروى عن ابن سينا والذي ألف رسالة في العشق كتبها لابن عبد الله الفقيه.
وملخص هذه الحكاية، أنه وقع أحد الفتيان من أبناء أمراء فارس في مرض عضال، وقد عجز الأطباء في ذلك الوقت عن معرفة هذا المرض وبالتالي علاجه.
فكان الشاب ينحل ويضعف يوما بعد يوم، وقد امتنع عن الطعام لانعدام الشهية حتى هزل ولزم الفراش.
ولما عجز الأطباء عن إيجاد الدواء الشافي لمرض هذا الفتى، لجأ أهله لابن سينا يرجونه زيارة المريض والنظر في حالته بعد أن يئسوا تماما من شفائه.
وفور وصول ابن سينا إلى بيت المريض سأل عن أعراض سقمه وما آل إليه حاله. ثم دخل على الفتى وفحصه بعناية، وجلس بجانب فراشه ووضع أصبعه على نبضه،
ثم طلب من أحد الخدم أن يعدد جميع أحياء تلك البلد، ولما وصل الخادم إلى ذكر حي ما لاحظ ابن سينا أن نبض الفتى قد تسرع.
وعندئذ طلب من الخادم أن يذكر أسماء العائلات التي كانت تقطن ذلك الحي، ولما أتى الخادم على ذكر اسم معين من تلك الأسماء شعر بأن نبض الفتى قد تسرع أكثر.
وهنا سأل ابن سينا إن كان لتلك العائلة من بنات فأجابوه نعم، فقام من توه إلى أهل الفتى وقال لهم لقد بان السبب فزال العجب إن ابنكم عاشق إحدى بنات تلك العائلة
وهذا هو المرض وعلاجه بالزواج من تلك الفتاة.
هذه القصة الطريفة تفسر أنه لماذا أكثر الأطباء العرب المسلمون الذين تحدثوا عن مرض العشق قد اعتبروا اضطراب النبض لدى ذكر المعشوق
هو من العلامات التشخيصية لهذا المرض. يقول ابن سينا في علامات هذا المرض: "وعلامته غؤور العين ويبسها وعدم الدمع إلا عند البكاء،
وحركة متصلة للجفن ضاحكة كأنه ينظر إلى شيء لذيذ أو يسمع خبرا سارا أو يمزح. ويكون نفسه كثير الانقطاع والاسترداد فيكون كثير الصعداء.
ويتغير حاله إلى فرح وضحك أو إلى غم وبكاء عند سماع الغزل ولاسيما عند ذكر الهجر والنوى. وتكون جميع أعضاؤه ذابلة خلا العين،
فإنها تكون مع غؤور مقلتها كبيرة الجفن سميكته لسهره. ويكون نبضه نبضا مختلفا بلا نظام البتة كنبض أصحاب الهموم، ويتغير نبضه وحاله عند ذكر المعشوق خاصة وعند لقاءه بغتة
. ويمكن من ذلك أن يستدل على المعشوق أنه هو إذا لم يعترف به، فإن معرفة معشوقه أحد سبيل علاجه. والحيلة في ذلك أن تذكر أسماء كثيرة تعاد مرارا وتكون اليد على نبضه
فإذا اختلف بذلك اختلافا عظيما وصار شبه المنقطع ثم عاود وجرب ذلك مرارا علمت منه اسم المعشوق. ثم يذكر كذلك السكن والمساكن والحرف والصناعات والبلدان
وتضيف كلا منها إلى اسم المعشوق ويحفظ النبض، حتى إذا كان يتغير عند ذكر شيء واحد مرارا جمعت من ذلك خواص معشوقه من الاسم والحرفة ما عرفته.
فإنا قد جربنا هذا واستخرجنا به ما كان الوقوف عليه منفعة ".
يمكن تلخيص أعراض وعلامات مرض العشق كما ذكرها الأطباء المسلمون القدامى: النحول – قلة الشهية – غؤور العين مع سماكة الجفن
– حب العزلة مع الاسترداد وكثرة الصعداء – اضطراب النبض وخاصة تسرعه لدى ذكر المعشوق أو أي شيء يتصل به.
Cant See Links
المعالجة:
لقد أجمع الأطباء العرب المسلمون الذين تحدثوا عن مرض العشق أن أفضل وأنجع علاج لهذا المرض هو الجمع بين العاشق والمعشوق وذلك على نحو تبيحه الشريعة.
يقول سبط المارديني في ذلك: "العلاج لاشيء كالوصال لمن يتهيأ على الوجه الشرعي، وإلا أهين وقبح بفعله، وإشغاله ببعض العلوم العقلية ومجالس أهل الفضل ثم استفراغ بعض السوداء.
ويكثر من صب الماء على الرأس. ويطعم البطيخ والقثاء والبقلة، ويسقى الرايب الحامض، ويؤمر أن ينام تحت الندى. وذكروا أن النظر إلى القمر عند امتلائه يمنع هذا المرض.
وينصح بكثرة الاغتسال بالماء البارد أيضا. ولا يعطى الأشياء الحارة من الأدوية والأغذية والأهوية".
مما سبق يمكن أن نذكر مقومات علاج مرض العشق على النحو التالي:
أولا- محاولة الجمع بين العاشق والمعشوق بالزواج إن أمكن، وفي ذلك يقول ابن هبل البغدادي: "العلاج لاشيء أنفع من الجمع بين العاشق ومعشوقه على وجه تبيحه الشريعة
فإنه يصلح ويبرأ. وإن لم يكن فالنظر من بعيد، وإلا فالتسويف".
ويوضح ابن سينا هذه الحقيقة بقوله: "ثم إن لم تجد علاجا إلا تدبير الجمع بينهما على نحو يبيحه الدين والشريعة فعلت
وقد رأينا من عاودته السلامة والقوة، وعاد إلى لحمه. وكان قد بلغ الذبول وجاوزه، وقاسى الأمراض الصعبة المزمنة والحميات الطويلة بسبب ضعف القوة لشدة العشق.
ولما أحس بوصل من معشوقه بعد مطل معاودة في أقصر مدة قضينا به العجب، واستدللنا على طاعة الطبيعة لأوهام النفس".
ثانيا- نصح العاشق وتعنيفه على أفعاله إذا كان من العقلاء. يقول ابن سينا أيضا: "وإن كان العاشق من العقلاء فإن النصيحة والعظة له والاستهزاء به وتعنيفه والتصوير لديه أن ما به إنما هو وسوسة وضرب من
الجنون، م