هل الفن عبارة عن محاكاة للطبيعة وتمثيل للمظهر ام هو تهذيب للنفوس وتجسيد للأقكار والجوهر؟
انطلاقا من هذ السؤال الأزلي, وفي محاولة الجواب عليه للإطلالة على عالم الرمزية, تستوقفنا اجابة هيجل الذي يرى ان الفن مند بدايته مر بثلاث مراحل:اولها المرحلة الرمزية التي هي مرحلة ايحاء بامتياز؛ ثم
مرحلة الفن الكلاسيكي اليوناني القديم الذي هو المحاكاة,ثم الفن الرومنسي الذي هو فن تحرير الروح من هيمنة المادة.
وتعريف هيجل هذا هو تعريف اجمال وتصحيف وليس تحديد مذاهب اوتصنيف.وغالبا ما يحيلنا مفهوم الفن الرمزي الى الفن المسيحي والكنيسة بالخصوص, حيث تمت عملية التعبير عن كل المعتقدات والمسلمات من مظور ديني خاضع
لسلطان الكنيسة.
ربما ليست هناك مدرسة أوثيار فني تضاربت الأقوال حوله واتسمبعدم الوضوح مثل الرمزية. فكلمة رمز تتعدد وتتلون حسب المجال الفني أو الحقلالمعرفي الذي توظف فيه. مما جعل بعض الدارسين يصفون هذا المصطلح بالغامض
كما وصفه (غراهام هو) بالضبابية. لأن الرمز كلمة تتجاذبها عدة علوم وفنون مثل السيمياء والفنوالأنثروبولوجيا والمنطق وعلم النفس.. فتعددت المفاهيم بتعدد الفنون, أحيانا نجدالرمز يعني ما يوحي به وليس ماهو
عليه, وأحيانا أخرى يستعمل الرمز عوضا عن شيء آخرلينوب عنه ويقوم مقامه. وهذا ما اعتمدته المدرسة التي اصطلح على تسميتها بالرمزيةالتي تحول الفن إلى إشارات دالة, فكانت الخطوط والألوان تعبر عن أفكار
وأحاسيس يريدالفنان إيصالها إلى الآخرين. والواقع أن العلامات الفنية والأشكال والألوان كلهارموز, وذلك لسبب بسيط هو أن الفنان عندما يضع على لوحته شكلا ما أو لونا فإنه يصبحرمزيا وأن ذلك الشكل أو اللون
يصبح رمزا تلقائيا. لأن العمل الفني بطبيعته يوحيبأكثر مما هو عليه. والفنون كلها رمزية ولو بنسب متفاوتة .اما اذا اردنا ان نعطي تعريفا مختصرا بسيطا لما يعرف بالفن الرمزي قلنا هو الفن الذي يستعمل الأشكال
والألوان والحركات لتوحي بأشياء وتكون بديلا لها بطريقة او بأخرى ؛ الشئ الذي يحيطها بالغموض , لأنها تصبح كثيفة الدلالة وغنية بحمولات ومعاني . وهنا نستحضر تعريف هيجل للرمز, حيث يرى انه شيئ مادي محسوس
يرمز او يوحي بشئ مجرد كرمزنا بالميزان للعدالة مثلا. {1}. لكن قبل خوضنا في هذا الجانب بشيئ من التقصيل, دعونا نقول أصل مصطلح الرمزية يوناني sumbolom وهو نقيض المجازية, والفنان الذيلقبوه بالرمزي
هو الذي يحافظ على الخصائص العامة للطبيعة لكنه يجعلها في خدمةالغاية التي يرمي إليها هو لا تلك التي تعنيها في الواقع. والحقيقة أن الفن منذنشأته الأولى كان رمزيا حتى وهو في رحم الكهوف.حيث كان الإنسان
البدائي يضع حلا معادلا لكل الظواهر الطبيعية والهواجيس والمخاوف التي تؤرقه ولم يجد جوابا لها ؛ فكان يضع لها رمزا معادلا ويرتاح من ضغطها ويتخلص من خوفه منها ؛ وكان هذا اهم ا سباب لجوء انسان تلك الفترة
الى الرمز . اما رمزية القرن التاسع عشرالتي كانت تعتمد على مقولة افلاطون الشهيرة التي تذهب الى ان كل المحسوسات ماهي في الواقع الا رموزا وصورا لحقائق في عالم المثل؛ كما كانت عبارة عن ردة فعل الفنانين
على الفراغ الروحي والتبرم من القوانين الصارمة للواقعية الكلاسيمية, وانتقاد الواقع ووضع بديل له, بعيدا عن المباشرة؛ متوسلين بالرمز لاكتشاف المعنى والايحاء به. مقتنعين بعجز التعبير المباشر ومعه العقل
الظاهر عن التعبير ونقل احساس الرمزيين.. اما الرمزية المعاصرة نسبيا فان توظيفها للرمز في الأعمال الفنية بصفة عامة لايعدو ان يكون تحايلا على الظروف السياسية والجهات القمعية الحاكمة التي لا تسمح للفنان
بالافصاح عن رأيه صراحة والجهر بصوته عاليا, فيتحايل على عين المراقب, وينفلت من بطش سيف المحاسب. وقد ظهرت صورا من هذا الاتجاه الرمزي عندنا في العالم العربي منذ الخمسينات, وفي فترات متقطعة هنا وهناك,
حيث كان الفنان المطوق برواسب الاستعمار وبعده بأنظمة شمولية صارمة, لايستطيع الجهر تحتها بانتقاد الواقع المرير, ولا يقدر على الصراخ بصوت الحق في وجه الجلاد الجائر, فيتوسل بالرمز في سبيل ايصال رسالته
النضالية العادلة, ايحاء وتلميحا دون التصريح , خوفا على نفسه. وغالبا ما رأينا في الستينات اعمالا عربية تتمحور حول العدالة والحرية لعدد من الفنانين العرب, يستنجدون فيها برموز تظهر تناولا للقضية
الفلسطينية, وتبطن نقدا لادعا للظلم والبطش السائد في مجتمع الفنان, وتمرر اشارات ذكية الى المتلقي النبه الذي يفهم الرسالة بشكل صحيح. وهنا اذكر انه في احد معارضي في اواخر السبعينات, ومن ضمن اللوحات
المقدمة للعرض في احدى القاعات التابعة للدولة , كانت هناك لوحة رمزية ابرز ما فيها يد جبارة تكسر سلسلة فولادية ضخمة ملتفة حول عنق سجين؛ وقد فوجئت في آخر لحظة بممانعة المسؤول عن القاعة في عرضها, فهددت
بالغاء المعرض ان لم تعرض هذه اللوحة؛ وكان من المقرر ان يدشن المعرض من طرف جهة رسمية. ولما وجد هذا الشخص نفسه امام خيارين: عرض اللوحة او الغاء المعرض الذي من المفترض ان يدشن بعد قليل, وافق على عرضها ,
وفي حفل الافتتاح وعند طوافي بجنبات المعرض رفقة الوفد الرسمي , وعند توقفنا امام اللوحة المذكورة , وحتى قبل ان اسأل عنها او انطق بأية كلمة, بادر هذا المسؤول بالتدخل قائلا لأعضاء الوفد :{ هذه لوحة يرمز
بها الفنان للقوة العربية وهي تحرر فلسطين المغتصبة !}. لقد كان ينظر الى الفن التشكيلي على انه اقل خطرا من اصناف اخرى من الفنون كالأدب مثلا, ويمكن حصره واحتواء خطره محليا دون السماح بنفاد صوته الى
الخارج, الشيئ الذي منح التشكيل هامشا للمناورة. لكن كلما اشتد عليه الخناق الا ولجأ الى خدعة الرمز, موظفا لغة سيكولوجبة ايحائية في سياق فني للوصول الى اهدافه.
فالفنانرمزي بطبيعة عمله شاء أم كره, ووظيفة الرمز كما هو عند ليفي شتراوس هي جعل الإنسان يعقل ذاته والعالم من حوله . إنما بدرجات مختلفة؛ حيث يطغى أحيانا الجانب الرمزيعلى الجانب الجمالي. وهذا طبيعي لأن
الفنان عندما يجد نفسه تحت ضغط ظروف تحول بينهوبين التعبير المباشر عن مشاعره وأحاسيسه ـ كما اسلفنا ـ يضطر إلى الإيغال في الرمزية على حسابالجانب الجمالي , كما كان الشأن بالنسبة للفنان الفرنسي أيام
الاحتلال النازي مثلا. وعلى ذكر الفنان الفرنسي أشير إلى أن الرمز ية في الأدب انطلقت في الشعر الفرنسيأولا سنة 1880 وقادت قاطرة الفنون الأخرى لتعم العالم بعد ذلك. لكن يجب الانتباه إلى بود لير عندما
يقول:(( إنالمعرفة الجمالية نقيض المعرفة العادية, إنها معرفة رمزية, فإن غاب الرمز غاب الفن. ألا يفترض الفن تقابلا طبيعيا غير تقليدي بين الشكل الملموس والموضوع الذي يرمزإليه؟)){2}. وبالمقابل لنستمع إلى
هربيرت ريد وهو ينبهنا إلى مخاطر الاعتماد الكليعلى الرمزية:((فالرمزية لا تدفع بالفنان نحو مقياس قاعدة جمالية بشكل أرفع, فهي لامبالية كليا, وتكتفي بتصوير الغرض بصورة مختصرة حتى الدرجة القصوى, الصورة
أوالفكرة, مثل هذا التصوير يميل واقعيا نحو إعاقة أي تطور لمصلحة الصفات الجمالية.)){3}.
إن مايزيد الرمزية غموضا ويحد من مصداقية تحديدها بكل دقة اختلاف النقاد ومؤرخي الفن حولتصنيفهم للمنتمين إليها, فمنهم من يعد هذا رمزيا ومنهم من يحسبه وحشيا أو انطباعياكما هو الشأن مثلا بالنسبة للفنان
بول جوجان الذي صنف انطباعيا ثارة ووحشيا ثارةأخرى بينما هو يصنف نفسه رمزيا. فقد أطلق على مذهبه اسم الرمزية.{4}
سيميائيا يفرق العلماء بين الرمزوالعلامة لأن هذه الأخيرة لاتتعدى نطاق الإشارة, وتكون مفهومة من قيل الجميع, بينماالرمز أكثر تعقيدا وتجردا ولا يدرك إلا بفهم الفكرة التي يرمي إليها. وهناك عدةتفريعات
وتشعبات وتصانيف للرموز مثل تقسيمها إلى خاصة وعامة, حيث يهتم الفن بالرموزالخاصة وتهتم الأنثروبولوجيا بالرموز العامة. لأن هدف الرموز الخاصة هو التعبير عنالانفعالات الفردية والمواقف الشخصية, بينما تهدف
الرموز العامة إلى التواصل بينأفراد المجتمع. أما الفيلسوفة سوزان لانجر فتفرق بين نوعين من الرموز: رموزاستدلالية وتستعمل في العلوم ورموز تمثيلية وتستعمل في الفن, الأولى اتفاقية أماالثانية فليس لها
دلالة ثابتة أو قواعد, ولايمكن استبدالها برموز أخرى كما هو الشأنبالنسبة للرموز الاتفاقية. لأن الرموز التمثيلية متصلة بالذات. وحسب رأي هذهالفيلسوفة الأمريكية الإشارة ليس لها معنى نستمده من تأملنا لها
وإنما معناها متفقعله.أما الرموز التمثيلية فمعناها في ذاتها التي نتأملها وننفعل بها. لأن الصلة بينالشكل والمضمون في الفن صلة طبيعية وليست اتفاقية. وبهذا نكون قد وقفنا على بابالسيمياء كما يسميها دوسوسر
أو السيميوطيقا كما يسميها الأمريكي بيرس, فالسيمياءباختصار حسب تعريف دوسوسر هو العلم الذي يدرس حياة العلامة من داخل الحياةالاجتماعية.
ولابأس من إلقاء نظرة عابرة مختصرة جدا على أهم اتجاهين في هذا العلم وهماسيمياء دوسوسر وسيميوطيقا بيرس, فقد عرف الأول الإشارة على أنها علاقة بين الدالوالمدلول وليست بين الاسم والمسمى لأنها ذات
طبيعة خطية وتكتسب معناها من النظامالذي تندرج فيه.. فالعلامة إذن عند دو سوسر ذات وجهين: الدال والمدلول, أي الصورةالحسية التي تستدعي في دهننا صورة ذهنية أكثر تجريدا من الصورة الحسية..
أماالأمريكي بيرس فنظريته أكثر اتساعا وشمولية لأنه لم يبقها حبيسة علم اللغة مثلزميله. والعلامة عنده ثلاثية المبنى, تتكون من: