يؤكِّد المؤرخ الإسلامي العلاّمة محمد المنتصر بالله الكتاني رحمه الله في كتابه: «فاس عاصمة الأدارسة*» أنّ جامعة القرويين تُعدّ أقدم جامعة في العالم، وقد سبقت الزيتونة
بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تُعدّ أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين»، ويُضيف الدكتور حسين مؤنس في كتابه: «معالم تاريخ المغرب والأندلس» أنّ جامع القرويين يُعتبر أقدم جامعة في تاريخ
الإسلام.
هذه الجامعة تخرّج منها العديد من الأعلام المسلمين والغربيين، كما كان لهذه المؤسسة دورها السياسي إلى جانب دورها التربوي والعلمي؛ فلقد أشار علماء التاريخ الإسلامي إلى أنّ اتخاذ القرارات السياسية
الحاسمة من بيعة وحرب وسِلْم كانت تخرج بتوقيعات علماء جامع القرويين.
وفي عهد ما يُسمّى الوصاية الفرنسية على المغرب سنة 1912م كان جامع القرويين مركزاً للمقاومة ومعملاً يصنع أبطالها ومجاهديها؛ حتى قال عنها أحد دهاقنة الاحتلال الفرنسي (دهاقنة جمع دُهقان، وهو رئيس القرية
أو الإقليم)، الجنرال «لوي هوبير كونزالف ليوتي» بعدما لقي من شدة بأس أهله وروّاده: «لا استقرار لنا في المغرب إلا بالقضاء على هذا البيت المظلم».
ولا نستطيع أن نُغفل الدور الاقتصادي الذي لعبته هذه المؤسسة الدينية والتعليمية؛ فلقد ذكر المؤرخ عبد الهادي التازي في كتابه «جامع القرويين: المسجد والجامعة بمدينة فاس» حيازة جامع القرويين لأوقاف جعلته
مستقلاً مالياً عن خزينة الدولة لدرجة أن غدت ميزانيّته تنافس ميزانية الدولة.
هذا الصرح العظيم، الذي بقي لقرون طويلة منارة للسالكين، بَنَتْه امرأة! إنّها فاطمة الفهرية (أم البنين) التي شيّدته في عهد الأمير يحيى بن محمد بن إدريس الحسني في رمضان من سنة 245 هجرية (يونيو 859 م)،
فمن هي (أم البنين) فاطمة الفهرية؟
حياتها
هي بنت رجل عربي هو الشيخ الفقيه أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّّه الفِهري القيرواني الذي كان من عداد المهاجرين القيروانيين الذين وفدوا إلى فاس منذ الأيام الأولى للإمام إدريس بن إدريس الذي حكم
المغرب، «وكانت مُثْرية بموروث أفادته من ذويها»؛ فلما تزوجت مات زوجها الذي كان هو الآخر يُعَدّ من الأغنياء، فوَرِثت مالاً كثيراً، وكان لها أخت تُدعى مريم تُكَنّى بـ«أم القاسم»؛ فعزمت كل منهما على صرف
ما ورثتاه في وجوه الخير حتى يكون ذُخراً لهما بعد موتهما.
آلية تنفيذ المشروع
اشترت فاطمة أم البنين قرب منزلها في عُدْوة الواردين القرويين (أي في ضفّتهم) أرضاً بيضاء كان يُصنع بها الجِص وشرعت في حفر أساس المسجد وبنائه مَهَلّ رمضان سنة 245، واستمر العمل به إلى سنة 263، ولشدة
تحرّيها الحلال وحرصها على عدم وجود أي شبهة تشوب تشييد الجامع عقدت العزم أن لا تأخذ تراباً أو مواد بناء من غير الأرض التي اشترتها بحُرِّ مالها. ومع أول أيام البناء أصرّت أم البنين على بدء الصوم، ونذرت
ألاّ تُفطر يوماً حتى ينتهي العمل فيه. وكانت رحمها الله تُشرف على سير العمل بنفسها. وعندما تمّ تشييده، كان أول عمل قامت به فاطمة الفهرية أن صلّت ركعَتَيْ شكر لله.
ولقد مشت أختها مريم (أم القاسم) على الدرب نفسه؛ ففي تلك السنة بنت مسجداً بعدوة أهل الأندلس، ويذكر أن هذا الجامع أصبح ملحقاً من ملحقات جامع القرويين بعد فترة.
وبعد عشرين سنة من بدء بناء هذه المَعْلَمة، توفيت فاطمة بنت محمد الفهري القيروانية المعروفة باسم (أم البنين) نحو عام 265هـ /1180م.