الخطبة المعروفة بالشِّقْشِقِيَّة
وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له
أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا
ثَوْباً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَكْدَحُ
فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه ُ.
ترجيح الصبر
فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى وَفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ
بَعْدَهُ ـ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى ـ :
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا * وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ
فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَيَخْشُنُ
مَسُّهَا وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَالِاعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ
وَشِمَاسٍ وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى
مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ
وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَهَنٍ إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ
الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ .
مبايعة علي
فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ
فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا
أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ
ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ .
قَالُوا وَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً قِيلَ إِنَّ فِيهِ مَسَائِلَ كَانَ يُرِيدُ الْإِجَابَةَ عَنْهَا
فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ [فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ] قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اطَّرَدَتْ خُطْبَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ.
فَقَالَ : هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَوَاللَّهِ مَا أَسَفْتُ عَلَى كَلَامٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أَلَّا يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ .
تحديث للسؤال برقم 1
ان الخطبة الشقشقية من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) المشهورات ، وقد روتها العامة والخاصة ، وشرحوها ، وضبطوا ألفاظها من دون غمز في متنها ولا طعن في أسانيدها .
وتكاد ان تكون هذه الخطبة هي الباعث الأول ، والسبب الأكبر لمحاولة تزييف (نهج البلاغة) باثارة الشبهات الواهية حوله ، وتوجيه الاتهامات الباطلة لجامعه الشريف الرضي بوضعها ، وما علموا أن هذه الخطبة
بالخصوص مثبتة في مصنّفات العلماء المشهورة ، وخطوطهم المعروفة قبل أن تلد الرضي أمّه ، وإليك طائفة من علماء السنة الذين رووها أو استشهدوا ببعض مقاطعها .
1 ـ (الانصاف في الامامة ) لابن قبة الرازي ، كان من المعتزلة ومن تلامذة أبي القاسم البلخي شيخ المعتزلة ، ثم انتقل الى مذهب الامامية .
2 ـ أبو القاسم البلخي الكعبي المتوفى سنة (317هـ) ، إمام البغداديين من المعتزلة ، له تصانيف تضمن بعضها كثيراً من الخطبة الشقشقية، كما شهد لنا بذلك ابن أبي الحديد في 9شرح نهج البلاغة : 1 / 205) .
3 ـ (العقد الفريد) لابن عبد ربّه المالكي المتوفى سنة (328 هـ)ن كما نقل ذلك المجلسي في (البحار : 8 / 160 ط الكمباني) . ويؤيد ما نقله المجلسي ان القطيفي في كتاب (الفرقة الناجية) نص على انها في الجزء
الرابع من (العقد الفريد) .
ثم جاءت الايدي الامينة على ودائع العلم ! فحذفتها عند النسخ أو عند الطبعن وكم لهم من أمثالها !
4 ـ (المغني) للقاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفى سنة (415هـ) .
5 ـ (نثر الدرر) و (نزهة الأديب) للوزير أبي سعيد الآبي المتوفى سنة (422هـ) .
6 ـ (شرح نهج البلاغة) لابن ابي الحديد المعتزلي (1 / 151) .
7 ـ (تذكرة الخواص) لابن الجوزي (133).
ونكتفي بهذا المقدار .
ونلفت انتباهكم الى أن كتب الأدب ومعاجم اللغة لا تخلو من ذكر الخطبة الشقشقية، فأنظر:
أ ـ (مجمع الامثال : 1 / 369) للميداني، (النهاية : 2 / 294) لابن الأثير، (لسان العرب / في مادة شقشق) لابن منظور .
تحديث للسؤال برقم 2
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه جملة مختارة من مقاطع ومفردات الخطبة الشقشقية قد استفدتها من شروح اغلب شروح النهج واشهرها هو شرح الحائري وشرح ابن ابي الحديد و الراوندي وغيرهم ابدأ اولا ببيان معنى تسميتها وسببه ثم ببيان ما اخترته
من المقاطع التي تحتاج الى بيان فأقول :
معنى الشقشقة وسبب التسمية
« الشقشقة» بالكسر ، شيء كالرية يخرجه البعير من فيه إذا هاج و الخطبة الشقشقيّة سميت كذلك لانها متضمّنة لذكر الشقشقة حيث قال عليه السّلام لابن عباس: تلك شقشقة هدرت ثم قرت ، و ربّما تعرف بالمقمصة أيضا
من حيث اشتمالها على لفظ التقمّص الوارد في أوّلها " لقد تقمصها فلان " ونظير ذلك الخطبة المعروفة بالطالوتية حيث تضمّنت قصة طالوت ، و الوسيلة لكونها متضمّنة لذكر الوسيلة و هو ايضا كالتّعبير عن السّور
بأشهر ألفاظها كالبقرة و آل عمران و الرّحمن و الواقعة و غير ذلك .
( تقمصها ) لبسها كالقميص . والضمير يعود لــ " الخلافة " وفلان : ابو بكر .
( القطب من الرحى ) وهي الحديدة التي تدور فيها ، و قطب الشي ء : ملاكه و مداره .
( ينحدر عني السيل ) تشبيها لنفسه بذروة الجبل المرتفع فاستعار له ما هو من أوصاف الجبل و هو السيل المنحدرعنه إلى الغيظان ، و لعلّ المراد بالسّيل المنحدر عنه عليه السّلام هو علومه وحكمه الواصلة إلى
العباد و الفيوضات الجارية منه عليه السّلام على الموادّ القابلة، و تشبيه العلم بالماء و السّيل من ألطف التشيهات و وجه الشبه هو اشتراكهما فيكون أحدهما سبب حياة الجسم و الآخر سبب حياة الرّوح ، و قد ورد
مثل ذلك التّشبيهفي الكتاب العزيز قال تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مآؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتيكُمْ بِمآءٍ مَعينٍ »
( و لا يرقى إليّ الطّير ) فانّ عدم رقى الطير إلى مكان يكون فيه الانسان ممتنع عادة ، و لكنّه ممكن عقلا بالنّظر إلى مقامات الامام النّورانية ، و معجزاته الخارقة للعادة .
( و سدلت دونها ثوبا ) أرخاه ، و به يكنى عن الإعراض وغض النظر .
( وطويت عنها كشحا ) الكشح : ما بين الخاصرة والجنب . و" طوى عنها كشحا " مال عنها وهو مثل .
( طفقت ) : شرعت .
( اليد الجذاء ): المقطوعة ، فيقال : رحم جذاء ، اي لم توصل .
(الطخية ): الظلمة . ونسبة العمى اليها مجاز عقلي . وانما يعمى القائمون عليها .
( يكدح ): يسعى سعي المجهود .
( هاتا ): هذه .
( أحجى ): أجدر ، والزم . واصله من الحجا وهو العقل فهو اقرب الى العقل .
(القذى ) ما يقع في العين من تبنة و نحوها .
( شجا ) : ما يقع في الحلق من عظم و نحوه .
( كور الناقة ) : ما يوضع على ظهرها للركوب .
( شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان اخي جابر )
ومعنى البيت : ان فرقا بعيدا بين يومه في سفرهوهو على كور ناقته ، وبين يوم حيان في رفاهيته ، فان الأول كثير العناء شديد الشقاء والثاني وافر النعيم وافي الراحة
( يستقيلها في حياته ) : اشارة الى قول ابي بكر " اقيلوني اقيلوني فلست بخيركم " وايضا قال " وليتكم ولست بخيركم "
( لشدّ ما تشطرا ضرعيها ) الضرع للحيوان كالثدي للمرأة، و الشطر النصف و يقال « ولد فلان شطره » أي : نصف ذكور و نصف إناث ، و يقال «شعر شطران » أي : نصفه أسود و نصفه أ