التقيا والنفاق في منهج الإخوان
لقد لعب الإخوان وعلى رأسهم حسن البنا ومن بعده جميع مرشدي الجماعة، على كل الحبال، فمارسوا التقيا والنفاق السياسي على نطاق واسع عبر تاريخهم وحتى اليوم، وذلك في سبيل تحقيق هدفهم بعيد المدى في الاستيلاء
على السلطة والحكم، ولكن كانت المشكلة الكبيرة التي واجهت البنا ومن جاءوا من بعده هى محاولة المواءمة بين الهدف الأعلى والأبعد للجماعة وهو السلطة والحكم، وما يفرضه ذلك عليهم من عمل مكشوف بالسياسة،
ومحاولة تغطية ذلك الهدف والمناورة حوله بادعاء أن العمل الرئيسي للجماعة هو الدعوة الاسلامية، ومن هنا جاء ربط البنا بين السياسة والدين بدعوته الى عودة الخلافة الاسلامية، التي تجمع في مفهومه بين السياسة
والدين، بل واحتكار السياسة لجماعته فقط بالمطالبة بإلغاء جميع الأحزاب السياسية القائمة والإبقاء فقط على حزب اسلامي واحد، وهو بالطبع ما يتمثل في جماعة الإخوان، وفي هذا الشأن قال «البنا» في العدد الأول
من مجلة «النذير» مخاطباً أتباعه في الجماعة في تحريض واضح ضد الاحزاب السياسية «ستخاصمون هؤلاء جميعاً، في الحكم وخارجه خصومة شديدة لديدة إن لم يستجيبوا لكم». ثم أعلن «البنا» نفسه زعيما سياسياً أوحداً
في مصر، ولم يستنكف أن يحرم الآخرين جميعاً من حق العمل السياسي، فنجده يقول: «لقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر، وأن يستبدل به نظام تجتمع فيه الكلمة، وتتوافر فيه جهود الأمة
حول منهج قومي اسلامي صالح» «النذير - العدد 30» والبنا إذ يقدم نفسه كحزب سياسي يريد السلطة، نجده يمارس أسلوب الاستعلاء والكبر الذي زرعه في نفوس أتباعه، فيزعم أنه لا يسعى للسلطة، ولكن السلطة هى التي
تسعى اليه قائلا: «نحن لا نسعى للحكم، ولكن هو الذي سيسعى البنا.. وحينئذ نفكر في تحديد موقفنا منه، أو نقبله أم نرفضه»، وحينما اشتدت تساؤلات الناس في مصر حول حقيقة هوية جماعة الإخوان، رد البنا على هذه
التساؤلات مراوغا: «أن الإخوان دعوة سلفية وطريقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية»!! وهذه المراوغة مقصودة من جانب البنا، وتخبط مقصود لذاته، ومخطط
محكم لكي تطل الجماعة قادرة على التعامل على أي وجه، ومع أي محيط، وكي يمكنها أن تتقلب لتتلاءم مع أي وضع متغير، ذلك أن هذا الأسلوب يؤكد على الطابع الديني للجماعة إذا ما جابهت رئيس حكومة قوى، ولكنه لا
يلبث أن ينغمس في الصراعات السياسية اذا ما وجد أمامه رئيس حكومة ضعيفة.
تحديث للسؤال برقم 1
وكانت استعادة الخلافة الاسلامية تشكل محور سياسة وخطابات حسن البنا، فطوال حقبة الأربعينيات وبينما كانت مصر كلها تغلي بالنضال ضد الاحتلال البريطاني، كانت مؤتمرات واجتماعات الاخوان
تنحرف بالقضية كلها نحو ضرورة التركيز على «استرجاع الخلافة الضائعة»، ففي العدد العاشر للجماعة «1938» لم يكتف حسن البنا بالتأكيد على إعطائه الأولوية لاسترداد الخلافة، بل نجده ينفي أي اهتمام بالولاء
والانتماء الوطني المصري، بل نجده يتحدث عن الوطن الإسلامي قائلا: «إنه يسمو عن حدود الوطن الجغرافية، والوطنية الدموية، الى وطنية المبادئ».
وكما وضع البنا شعار «الخلافة الإسلامية» في مجابهة «الوطنية» ويتخطي الوطن في الأولوية فنجده يحارب أيضاً القومية العربية، حيث يقبل العروبة «كرابطة حضارية وليس كقومية»، كما يرى في العروبة «وحدة روحية
بسريان الاسلامي في عنق أبنائها جميعاً»، وخلال التأكيد على فكرة الخلافة الاسلامية لم يوضح البنا من هو الشخص الذي يمكن توليه هذا المنصب، وكيف يمكن تحديد مواصفاته، فهل كان يقصد الملك فاروق عندما كان
ينافقه ويتملقه قائلا: «ان لنا في جلالة الملك المسلم أيده الله أملاً» بل ويمتدح الملك ويصفق له ويحتفل بعيد ميلاده وعيد جلوسه احتفالات يسودها التملق، وقد بدأ هذا التملق منذ توفى والده الملك فؤاد
حين كتبت مجلة الإخوان تحت عنوان «مات الملك يحيا الملك»: «مصر تفتقد اليوم بدورها في الليلة الظلماء، ولا تجد النور الذي اعتادت أن تجد الهدى على سناه»!! ثم توالت مقالات مجلة الإخوان في الدعاء لفاروق ولي
العهد ودعوته للتمسك بالتقاليد الإسلامية التي كان يتحلى بها والده، وتصفه بسمو النفس وعلو الهمة وأداء فرائض الله واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وفي مقال آخر تصف مجلة الاخوان الفتي صغير السن الذي لم يزل
ولياً للعهد بأنه «المربي والأستاذ والمثل الأعلى»!! وعندما بدأت الاحتفالات بتولي الملك فاروق الحكم في مصر، عقد حسن البنا المؤتمر الرابع للجماعة معلنا وبصراحة تامة أن هدف المؤتمر الوحيد هو الاحتفال
باعتلاء فاروق العرش، واعراباً من جماعة الاخوان عن ولائها للملك وتقديم فروض التهنئة له، وكان الملك قد وصل إلى الاسكندرية وركب القطار الى القاهرة، وعلى طول الطريق حشد الاخوان أكثر من عشرين ألفاً من
أتباع الجماعة لتحية الملك، وفي المؤتمر الرابع برزت لأول مرة جوالة الإخوان بزيها الكاكي لتقوم بدور قوة النظام والأمن، ويتوجهوا في مسيرة الى قصر عابدين هاتفين للملك: «نهبك بيعتنا وولاءنا على كتاب الله
وسنة رسوله»، وفي اطار هذا النفاق والتملق الإخواني للملك، كتب حسن البنا تحت عنوان «حامي المصحف»: «لأن 300 مليون مسلم في العالم تهفو أرواحهم الى الملك الفاضل الذي يبايعهم على أن يكون حاميا للمصحف
فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنوداً للمصحف، وأكبر الظن أن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق، فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص جنودك»، وهكذا أخذ حسن البنا يدغدغ أحلام الملك
الشاب الذي تولى العرش، ويلوح له بحلم الخلافة، بل ويمنحه هداية عامة منحها له الله على كل المسلمين، فماذا كان يريد الملك أكثر من ذلك؟ بل لقد تجاوز البنا كل الحدود عندما شبه الملك بالرسول صلى الله عليه
وسلم، فعندما حضر الملك الاحتفال بيوم الهجرة، قالت مجلة الإخوان: «إنه أعاد صورة سالفة، صورة الرسول الكريم حينما طلع على أنصاره طلوع البدر»، وعندما وجه الملك تحية الى الشعب بمناسبة حلول شهر رمضان، كتب
البنا في مجلة التنوير: «إن الفاروق يحيي سنة الخلفاء الراشدين، إذ يهنئ شعبه بحلول رمضان الكريم»، واستمر البنا علي سياسة الولاء والنفاق والتملق للملك، وبالغ في ذلك مبالغة دفعت الكثيرين لانتقاده، وإن
كان هو وجماعته اعتبروا ذلك نصراً كبيراً، حتى إن جماعة الإخوان عند إعادة طبع كتاب البنا «مذكرات الدعوة والداعية» استبعدت كثيراً من حكايات وروايات وكتابات الولاء المفرط للملك، وحرصت على شطب كل ما له
علاقة بهذا الأمر.
تحديث للسؤال برقم 2
كما تأكدت التقية والنفاق في سياسات وممارسات الإخوان عندما اصطدم الملك فاروق بالنحاس باشا زعيم حزب الوفد رئيس الوزراء والذي كان مسلحاً بتأييد الشعب، حيث حرص حسن البنا في المقابل
أن يقدم فاروق في صورة الملك الصالح المسلح بالدين، لكن النحاس باشا ظل متمسكاً بأهداف ليبرالية ورفض أن يتولى فاروق شئون الملك بأسلوب اسلامي، وذلك في خطاب عنيف أمام مجلس النواب قال فيه: «إن هذا الاقتراح
اقحام للدين فيما ليس من شئونه، وايجاد سلطة دينية خاصة بجانب السلطة المدنية» وأضاف النحاس باشا قائلا: «الاسلام لا يعرف سلطة روحية، وليس للرسل وساطة بين الله وعباده، وليس أحرص مني ولا من الحكومة التي
أتشرف برئاستها على احترام وتنزيه الاسلام، كما أنه ليس أحرص منا على الالتزام بأحكام الدستور، ولكن الاحتفال بمباشرة جلالة الملك لسلطته الدستورية شىء آخر، فهو مجال وطني يجب أن يتبارى فيه سائر المصريين
مسلمين وغير مسلمين»، إلا أن حسن البنا سرعان ما واجه الموقف باستعراض قواته لولائهم وتأييدهم للملك على النحو السابق ايضاحه، وعندما وقع الخلاف بين الملك والنحاس باشا، وخرجت الجماهير الوفدية الى الشارع
«النحاس أو الثورة» و«الشعب مع النحاس»، نجد حسن البنا يسارع إلى اثبات جدارته بالولاء الفعلي للملك، فتخرج جموع الإخوان هاتفة «الله مع الملك» ويتباهى الإخوان كثيراً بأن «جلالة الفاروق خرج الى شرفة القصر
ست مرات ليحيى مظاهراتهم»، لذلك أعطى الملك تأييده المطلق للإخوان، وفي ذلك كتب «السير مايلز لامبسون» المندوب السامي البريطاني الى وزارة خارجيته قائلا: «إن القصر الملكي قد بدأ يجد في الإخوان أداة مفيدة،
وأن الملك أصدر بنفسه أوامر لمديري الأقاليم بعدم التدخل في أنشطة الإخوان»، ثم ينقلب البنا في واحد من تقلباته المعتادة، فما إن يصل الوفد إلى الحكم عقب حادث 4 فبراير 1942، حتى يتحالف معه البنا بصراحة
ويقدم له كتابا يؤيد فيه سياسة الوزارة قائلا: «إن الواجب يقتضينا، والمصلحة تدعونا الى أن ننفذ بإخلاص وحسن نية أحكام المعاهدة «معاهدة 1936» التي وقعناها بمحض اختيارنا وملء حريتنا وقصدنا من ورائها سلامة
استقلالنا»، كما أعلن البنا أيضاً انسحابه من الترشح للبرلمان ارضاء للنحاس باشا، وكان الأخير لم يقبل من حيث المبدأ وجود حزب سياسي يتحدث باسم الدين، فأصدر في سبتمبر 1942 قراراً بمنع الاجتماعات العامة
للإخوان، واستدعى فؤاد سراج الدين «وزير الداخلية آنذاك» حسن البنا وسأله: «أنا عايز أعرف انتم جماعة دينية أم حزب سياسي؟» وأضاف سراج الدين: «احنا معندناش مانع أبداً انكم تكونوا حزب سياسي.. ولكن لا
تتستروا بستار الدين، ولا تتخفوا في زي الدين، أما أن تتستروا بـ «الله أكبر ولله الحمد» وفي نفس الوقت تقومون بعمل سياسي وتباشرون الحزبية فهذا غير معقول لأنه يخل بمبدأ تكافؤ الفرص بينكم وبين الاحزاب،
فأنا كرجل سياسي حزبي لا أستطيع أن أهاجم جماعة دينية تنادي بشعارات دينية سامية، وإلا سأكون محل استنكار من الرأي العام». فرد